السبت، 19 سبتمبر 2009

من قبائل ضنك ( قبيلة المربوعي )

قبيلة المربوعي إحدى قبائل ولاية ضنك ، قليلة العدد ، لها تاريخ عريق ، سطرت مآثر ومحامد لا يبليها تعاقب الأيام وتغير الأحوال ، تتمركز في ( الوسطى ) من ولاية ضنك ، بالقرب من حصن الإمام ، ذلك الحصن الذي كان المركز الإداري لهذه الولاية ، لا أدري لمن تنتسب ، دخلت في حلف قبيلة النعيم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين ، يعدهم البعض منهم ، وإن كان الأمر بخلاف ذلك ، فهم قبيلة مستقلة بذاتها، لها مناطقها الخاصة بها وأفلاجها وحصونها وبروجها.
برز منها العديد من الفقهاء والأدباء والشعراء الذين أسهموا في الحياة العلمية والثقافية في ولاية ضنك بصورة خاصة وفي عمان بصورة عامة .
كما تبوأ بعضهم مناصب سياسية عليا في عصر الإمامة اليعربية ( 1034هـ ـ 1162هـ ) ومن هؤلاء العلماء ما يلي :
1- الشيخ الفقيه محمد بن ربيعة بن زيد بن درع بن علي المربوعي الضنكي ، من أعلام عمان في القرن الحادي عشر الهجري ، وهو والد الشيخ الفقيه الأديب سليمان بن محمد بن ربيعة المربوعي .
2- الشيخ الفقيه سليمان بن محمد بن ربيعة المربوعي الضنكي ، من علماء عمان في النصف الثاني من القرن الحادي عشر والنصف الأول من القرن الثاني عشر الهجري ، ولد في بلدة ضنك في عصر الإمام سلطان بن سيف بن مالك اليعربي ( 1059هـ/ 1649م - 1090هـ/1679م) درس الشيخ سليمان على يد العلماء المعاصرين له وما فتئ يدرس ويتعلم ويزاحم العلماء بالركب حتى ارتقى في سلم درجات العلم فأصبح من أكابر فقهاء عمان ومن الذين يشار إليهم بالبنان .وعندما تفيء هذه المرتبة من العلم استدعاه الإمام سيف بن سلطان اليعربي إلى نزوى وظل بها حتى وفاة هذا الإمام عام 1123هـ حيث اجتمع فقهاء وعلماء عمان برئاسة الشيخ العلامة عدي بن سليمان الذهلي واتفقوا على عقد الإمامة على ولده الإمام سلطان بن سيف بن سلطان اليعربي وقد كان الشيخ سليمان بن محمد من الذين عقدوا بيعة الإمامة لهذا الإمام .حيث يقول الشيخ العلامة نور الدين السالمي نقلاً عن الشيخ الصبحي ما يلي : " وكان المتولي للعقد عدي بن سليمان وخلف بن محمد وسليمان بن محمد وكلهم ثقاة فقهاء " ) ( تحفة الأعيان ج2 ، ص 117 )لقد تبوأ الشيخ سليمان بعض المناصب السياسية في الدولة اليعربية حيث عينه الإمام سلطان بن سيف بن سلطان بن سيف بن مالك اليعربي ( 1123هـ/1711م – 1131هـ/1719م) واليا على مدينة نزوى وذلك بعد أن انتقل الإمام سلطان إلى مدينة الحزم حيث يقول الشيخ المؤرخ السالمي أثناء حديثه عن إمامة الإمام سلطان بن سيف الثاني ما يلي : " بويع له بعد موت أبيه وذلك في شهر رمضان المبارك سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف وكتب العلامة الصبحي لبعض إخوانه أن سيف بن سلطان صح معنا موته ثم صح معنا تقديم المسلمين ابنه سلطان إماما لكافة المسلمين تلقفت صحة ذلك من الفقيه ناصر بن سليمان بن مداد وسليمان بن محمد بن ربيعة المربوعي وقد ولاه على أهل نزوى " .( تحفة الأعيان ج2/ 117)ثم عينه بعد ذلك والياً على حصن ضنك ـ وهو الحصن الذي يطلق عليه اسم " حصن الإمام " ـ حيث أمر أثناء ولايته على ضنك وذلك عام 1129هـ - الشيخ سالم بن حماد بن سعيد بن أحمد الضنكي بنسخ أحد أجزاء كتاب الأشراف للشيخ الفقيه مبارك بن غريب بن مبارك المزروعي السمائلي حيث يقول في خاتمة الكتاب :" تم كتاب الأشراف وصلى الله على نبيه محمد النبي وآله وصحبه وسلم وكان تمامه وفراغه نهار الثلاثاء ورابع من شهر ربيع الأول من شهور سنة تسع سنين وعشرين سنة ومائة سنة وألف سنة من الهجرة الإسلامية على مهاجرها أفضل الصلاة والسلام وكان تمامه على يد الفقير الحقير المعترف بالخطأ والذنوب والتقصير الراجي إلى رحمة ربه القدير سالم بن حماد بن سعيد بن أحمد الضنكي للشيخ الثقة العدل الرضي الوالي الولي مبارك بن غريب بن مبارك المزروعي السمائلي اللهم وفقه لحفظه ولفظه وفهم معانيه إنك سميع الدعوات إنه على كل شيء قدير وكان نسخه له بأمر الشيخ الفقيه المحب الصفي سليمان بن محمد بن ربيعة المربوعي وهو والي حصن ضنك بعصر سيدنا ومولانا إمام المسلمين وخليفة النبيين سلطان بن سيف بن سلطان بن سيف بن مالك اليعربي أعزه الله ونصره على أعدائه وأيده على القوم الكافرين وصلى الله على محمد النبي وآله وصحبه وسلم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " . كما عُين واليا على منطقة الجو ( البريمي ) في عصر الإمام سيف بن سلطان بن سيف سلطان بن سيف بن مالك اليعربي ( 1140هـ/ 1728م – 1145هـ/1732م) .كان الشيخ سليمان فقيها وعالما وأديبا وشاعرا ، حيث أطلعت على بعض الآراء والفتاوى الفقهية له في بعض الكتب التي دونت في عصره أو بعد وفاته,ويذكر الشيخ البطاشي: (( أن له أجوبة كثيرة في الفقه نظماً ونثراً )). كما كان الشيخ ناسخاً لبعض المؤلفات الفقهية التي ما زالت مخطوطة إلى الآن .كما نُسخ له العديد من الكتب والمؤلفات من قبل العلماء المعاصرين له ومن هذه الكتب بعض أجزاء كتاب بيان الشرع والناسخ هو الشيخ عبدالغني بن محمد بن عبدالله بن محمد البصري القرشي الجوي الشافعي عام 1120هـ وذلك في عصر الإمام سيف بن سلطان بن سيف بن مالك اليعربي (1104هـ/1692م – 1123هـ/1711م) حيث يقول في خاتمة الكتاب ما يلي : " تم الجزء الرابع والأربعون في البيوع في أصناف شتى في العيوب والإقالة والثقة وهو الثالث من البيوع من كتاب بيان الشرع يتلوه الجزء الخامس والأربعون في البيوع والسلف والتجارة والمضاربة والرهن وهو الرابع من البيوع من كتاب بيان الشرع وكان تمامه ضحى الجمعة لثمان عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة عشرين سنة ومائة سنة وألف سنة من الهجرة الإسلامية على مهاجرها أفضل الصلاة والتسليم وكان تمامه على يد العبد الفقير إلى الله الراجي رحمة الله عبدالغني بن محمد بن عبدالله بن محمد البصري المخزومي القرشي كتبه للشيخ الورع الثقة الزكي سليمان بن محمد بن ربيعة المربوعي رزقه الله حفظه والعمل بما فيه ". ويقول أيضا في خاتمة مخطوطة بيان الشرع : ( ..كان تمامه يوم الأثنين لسبع عشرة ليلة خلت من شهر جمادى الآخرة من شهور سنة عشرين سنة ومائة سنة وألف سنة من الهجرة الإسلامية على مهاجرها أفضل الصلاة والسلام على يدي العبد الفقير الحقير المقر بالذنب والعجز والتقصير الراجي عفو ربه القدير عبدالغني بن محمد بن عبدالله بن محمد المخزومي القرشي البصري ثم الجوي نسخه للشيخ الرضي سليمان بن محمد بن ربيعة المربوعي رزقه الله حفظه والعمل بما فيه إنه ولي ذلك والقادر عليه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله).كما نسخ له كتاب " المعتبر " للشيخ أبي سعيد الكدمي وذلك في عصر الإمام سلطان بن سيف بن سلطان اليعربي ( 1123هـ/1711م – 1131هـ/1719م ) والناسخ هو الشيخ الفقيه خلف بن محمد بن خنجر بن سعيد بن غفيلة الغفيلي الضنكي حيث يقول :" وقع الفراغ من نسخ هذا الكتاب ضحى ثالث شهر ذي الحجة أحد شهور سنة أربع وعشرين ومائة سنة وألف سنة من الهجرة النبوية الإسلامية على مهاجرها أفضل الصلاة والسلام على يد أفقر خلق الله وأحوجهم إلى رحمة ربه القدير النادم على ما فرط في جنب الله خلف بن محمد بن خنجر بن سعيد بن غفيلة نسخة لشيخه وسيده الوالي الموالي الشيخ سليمان بن محمد بن ربيعة بن زيد المربوعي الضنكي رزقه الله حفظه والعمل بما فيه إنه سميع الدعاء آمين ".هذا وقد توفي الشيخ سليمان ـ رحمه الله تعالى ـ في منتصف القرن الثاني عشر الهجري أو قريباً منه حيث أنه لم يشارك في عزل الإمام سيف بن سلطان بن سيف بن سلطان اليعربي ومبايعة الإمام بلعرب بن حمير اليعربي عام 1146هـ مما يدل على أن الشيخ قد توفي قبل هذا التاريخ.ومما يدلل على ذلك أن الشيخ عمر بن مسعود بن ساعد المنذري نسخ أحد الكتب للشيخ سليمان في عام 1129هـ مما يدل على أن الشيخ كان على قيد الحياة حتى هذا التاريخ ويذكر الشيخ البطاشي أنه كان على قيد الحياة إلى سنة 1141هـ وبهذا أستطيع القول أن الشيخ توفي ما بين عامي 1141هـ و 1146هـ .
3- الشيخ الفقيه ربيعة بن زيد بن علي المربوعي الضنكي ، من أعلام ولاية ضنك في القرن الثاني عشر الهجري ، وهو من أقرباء الشيخ سليمان بن محمد المربوعي .
4- الشيخ جاعد بن سنان المربوعي الضنكي ، من أعلام ولاية ضنك في القرن الثاني عشر الهجري ، كان ناسخا للكتب ، جيد الخط .
5- الشيخ ربيعة بن سليمان بن محمد المربوعي ، وهو ابن الشيخ سليمان بن محمد المربوعي ، يقول كتاب النمير (الجزء 2/166) : ( يروى أن الشيخ الفقيه العالم سليمان بن محمد بن ربيعة بن زيد المربوعي الضنكي خرج عند وادي ضنك مع جملة من أهل البلاد طالبين من الله تعالى نزول الغيث بعد أن أجدبت الديار وجفت الآبار فاستجاب الله دعوتهم فعم الخصب سائر البلاد وكان خطيبهم يومئذ والدي الشيخ الفقيه العالم سليمان بن محمد بن ربيعة بن زيد المربوعي الضنكي ، وكتبه ربيعة بن سليمان بن محمد المربوعي )

الخميس، 17 سبتمبر 2009

حدائق ذات أفنان ج1 ( الخاتمة)

الخاتمة :


أعزائي القراء..

ها أنتم قد اطلعتم على ما احتوته حدائق فكري.. وتفرجتم على بساتين جملي.. واختتمتم جولة سفركم في رحاب " حدائق ذات أفنان".. بعضكم سعيد والبعض غضبان.. فللذين أعجبتهم تلك الجولة.. أتوقع لأنهم وجدوا أني قد زرعتها من حدائق الحياة.. ومن بساتين الواقع.. فكل ثمرة مررت بها وأنا في رحلتي في الحياة.. وأعجبت بها حق الإعجاب.. أخذت منها شتلة.. حتى أزين بها حدائقي.. لتكون حدائق غناء.. ليتلذذ بها القارئ الكريم كما تلذذت أنا بطعمها.. لتبعد عنه الحزن والسآمة.. والضيق والقنوط.. وقد تستغربون عندما تجدون أن بعض هذه الشتلات متشابهة.. والحقيقة أن هذه الشتلات متشابهة في الشكل فقط.. لكنها مختلفة في المضمون أي في الطعم أو الرائحة..
ورصعت فيه الدرر حتى تركته
يضيء بلا شمس ويسري بلا قمر
فعيناه سحر والجبين مهند
ولله در الرِّمش والجيد والحور
أما الذين لم تعجبهم حدائقي.. فأستميحهم عذراً على إضاعة وقتهم.. فيما لا فائدة منه!! ولا طائل من ورائه!!..
وأقول لهم : أن معظم الكتب تحمل بين طياتها.. الغث والسمين.. والجيد والرديء.. فيأخذ القارئ ما يراه صائباً.. وقد ينفعه في الحياة.. ويترك ما يراه على خطأ.. أو يضره في سلوكه وفكره ومعتقده.. واعلم أن هذه الحدائق لا تختلف عن تلك القاعدة.. لكنها عندي تمثل فكري ومعتقدي.. وتمثل سلوكي ومنهجي.. فإن كنت على خطأ.. فمن نفسي ومن الشيطان.. وإن كنت على صواب.. فمن الله.. والله يهدي من يحب إلى الصراط المستقيم.. واعلم أن الإنسان معرض للخطأ والزلل.. وجل من لا يخطأ.. وليس العيب أن يخطأ الإنسان.. ولكن العيب أن يستمر على الخطأ.. سواء كان سبب الاستمرار.. الكبر أو الجهل.. ولا يعذر في الاثنتين.. وإني أقول : رحم الله امرأ أهداني عيوبي..
وما من كاتب إلا سيفنى
ويبقى الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بكفك غير شيء
يسرُّك في القيامة أن تراه
وفي الختام لا أقول لكم وداعاً.. بل إلى لقاء قريب إن شاء الله.. مع حدائق أخرى.. سبحان ربك رب العزة عما يصفون.. وسلام على المرسلين.. والحمد لله رب العالمين..
المرء بعد الموت أحدوثه
يفنى وتبقى آثاره
فأحسن الحالات حال امرئ
تطيب بعد الموت أخباره

مع تحيات أخوكم في الله :
فارس الكلمة.....

حدائق ذات أفنان ج1 ـ رسائل وردود ـ الرد :( البلسم الشافي)

الرد:
البلسم الشافي:

أيها المحب.. إليك البلسم الشافي.. الذي حار به فكرك.. وتاه عنه عقلك.. شفاء لآلامك وأحزانك.. وترياقاً لكل مرض وبلاء.. ودواء لكل داء ووباء.. وحلاً لما عجز عنه علمك..
سرح الطرف في رياض المعالي
وزن الأمر وزن حر موالي
وافتكر في الأمور كيف تراها
وزن الأمر وزن حر موالي
فاعلم أيها السائل الحبيب.. أن كل الخلق يشكو دهره.. ويبكي عصره.. ويندب أمره.. وقد أنهى بالهم عمره.. وهذا حال الناس في كل عصر ومصر.. ولا مناص منه ولا مهرب.. ولا سبيل عنه ولا مخرج.. وإليك الحل عما سألت.. والإجابة عما استفسرت..
وما استعصى على قوم منال
إذا الإقدام كان لهم ركابا
فعندما يعم التقوى والإيمان.. في نفوس عباد الرحمن.. وتكون الاستقامة على دروب أهل الرضوان.. والسير في طريق أهل الإحسان.. ومخالفة النفس والهوى والشيطان.. ومجانبة الكفر والفسوق والعصيان.. عندها.. سوف تفتح أبواب الرحمن.. وتزال جدران الحقد والكراهية والغل والحسد من نفوس بني الإنسان.. وسيجتمع في صحن الدار كل أحبتنا وأخوتنا.. على كتاب الله.. وسنة نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم..
أما والله لو علم الأنام
لما خلقوا لما غفلوا وناموا
حياة ثم موت ثم نشر
وحشر ثم أهوال عظام
وعندما يكثر التضرع والاستغفار.. بالليل والنهار.. والعشي والأسحار.. والتوبة من الذنوب الصغار والكبار.. وإدمان قرع باب علام الغيوب العلي الجبار.. فسوف تُكسر قيود المعصية.. وتُقطع سلاسل الشيطان.. وتُذاب قضبان الهوى.. وتُلغى حواجز النفس الأمارة بالسوء.. وتُمزق الفواصل التي صنعها الفكر المتعفن.. محب الشهوة والشهرة..
إذ كان لا يرجوك إلا محسن
فمن الذي يدعو إليه المجرم
أدعوك رب كما أمرت تضرعاً
فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
ما لي إليك وسيلة إلا الرجا
وجميل عفوك ثم أني مسلم
وعندما يدوم ذكر الله على كل حال.. في الحل والترحال.. وبالليل والنهار حتى نهاية الآجال.. واللهج بياذا الجلال.. مع موافقة القلب اللسان.. والعمل بجميع الأركان.. وانتهاج سنة سيد الإنس والجان.. واقتفاء آثار الصحابة وأهل التقى والإحسان.. وإتباع مُنزل القرآن.. عندها.. سوف ترى المسلم عزيزاً أبياً.. والإسلام عالياً خفاقاً.. والأقصى حراً طليقاً.. والظالم ضعيفاً حقيراً..
يا من يرى ما في الضمير ويسمع
أنت المعد لكل ما يتوقع
يا من يرجى للشدائد كلها
يا من إليه المشتكى والمفزع
ما لي سوى فقري إليك وسيلة
فبالافتقار إليك فقري أدفع
ما لي سوى قرعي لبابك حيلة
فلئن رددت فأيَّ باب أقرع
وعندما تصف القلوب من الضغائن والأحقاد.. وتطهر من الفساد كالغل والحقد والحسد.. ويمحى من النفوس الكبر والعجب والرياء.. وتنظف الألسن من الكذب والسباب واللعان.. أو الغيبة والنميمة والبهتان.. وترك الانتقام من العباد.. ولو كانوا من أهل المصائب والفساد.. والعفو عن المسيء والحلم على أهل العناد.. والإحسان إلى أهل البؤس والشقاء.. وتفقد أهل الحاجة من المساكين والفقراء.. وأهل الإجهاد والإعسار والبلاء.. وقضاء حوائجهم.. وإدخال الفرح في نفوسهم.. وخفض الجناح لكل سائل أو محتاج.. وتلطيف القلوب بالكلمة الطيبة.. والبسمة الحانية.. وعندما يعفو الإنسان عمن ظلمه.. ويصل من قطعه.. ويعطي من حرمه.. ويحلم عن من أساء إليه.. عندها.. سوف ترى الابتسامة تملأ الوجوه.. والسعادة تعم النفوس.. والمحبة تسيطر على القلوب..
أخاك أخاك فهو أجلُّ ذخر
إذا نابتك نائبة الزمان
وإن رابت إساءته فهبها
لما فيه من الشيم الحسان
تريد مهذباً لا عيب فيه
وهل عود يفوح بلا دخان
أما عند مخالفة هدي الرحمن.. وإتباع الهوى والنفس والشيطان.. وملازمة أهل الكفر والفسوق والعصيان.. ومتابعة حزب الشيطان.. وقلة الاستغفار في الليل أو النهار وعند المنام.. وعدم التوبة من الذنوب العظام.. وإدمان الانغماس في الموبقات والحرام.. وسلوك دروب أهل الشقاء والإجرام.. والتلذذ بالمعاصي والآثام.. عندها.. تتحجر القلوب التي في الصدور.. وتموت الضمائر.. ويتعطل العقل عن العمل والتفكير.. ويتعود اللسان على كثرة الهذيان.. سواء أكان غيبة ونميمة وبهتان.. أو كذب وقول الزور وسباب ولعان.. وغيرها من آفات اللسان.. التي يصبح سالكها مثل الحيوان..
هذا جزاء أناس بالهوى غلبوا
وقصروا في أمور الدين فاستلبوا
كانوا شموساً عيون الناس ترمقهم
لكنهم بعد طول الدهر قد غربوا
ويكثر الفراغ بين شباب الإسلام.. فيبتعدوا عن أهل الصلاح والأخيار.. ويصاحبوا الأنذال والأشرار.. بعد أن يصابوا بداء الخواء الروحي الذي يفتك بالأحرار.. عند ذلك.. سترى أن ذلك الإنسان الذي كرمه الله سبحانه وتعالى عن باقي مخلوقاته.. سيتحول في نهاية المطاف.. إلى مسخ حيواني.. همه الوحيد.. إرواء جوعه.. وإشباع غريزته.. في لحظة عابرة.. وشهوة عارمة.. ونزوة حيوانية بحتة.. وبدون أي خجل أو وجل..
إذا ما الجهل خيم في بلاد
رأيت أسودها مسخت قروداً
وسيتحول كثير من الناس.. من عبادة الرحيم البصير.. إلى عبادة الدرهم والدينار.. وسيقدس صاحب الريال.. ويرمى إلى الكلاب كل من ليس عنده شيء من المال..
من كان يملك درهمين تعلَّمت
شفتاه أنواع الكلام فقالا
وتقدَّم الفصحاء فاستمعوا له
ورأيته بين الورى مختالا
لولا دارهمه التي في كيسه
لرأيته شرَّ البرية حالا
إن الغنيَّ إذا تكلم كاذباً
قالوا صدقت وما نطقت محالا
وإذا الفقير أصاب قالوا لم يصب
وكذبت يا هذا وقلت ضلالا
إن الدراهم في المواطن كلها
تكسو الرجال مهابة وجلالا
فهي اللسان لمن أراد فصاحة
وهي السلاح لمن أراد قتالا
أو يطحن بعبارات السب والتقريع والإذلال.. أو نظرات الازدراء والاحتقار..
يغدوا الفقير وكل شيء ضده
والأرض تغلق دونه أبوابها
وتراه ممقوتاً وليس بمذنب
ويرى العداوة ولا يرى أسبابها
حتى الكلاب إذا رأت ذا بزة
أصغت إليه وحركت أذنابها
وإذا رأت يوماً فقيراً جائزاً
نبحت عليه وكشرت أنيابها
أو يصبح منبوذاً من الأهل والأصدقاء..
الناس أتباع من دامت له النعم
والويل للمرء إن زلَّت به القدم
المال زين ومن قلَّت دارهمه
حيٌّ كمن مات إلا أنه صنم
لما رأيت أخلائي وخالصتي
والكلُّ مستتر عني ومحتشم
أبدوا جفاء وإعراضاً فقلت لهم
أذنبت ذنباً فقالوا : ذنبك العدم
وسوف يقتل الأخ أخاه.. ويعق الابن أباه.. عندما تنعدم القدوة.. وتنخار المبادئ.. وتتبخر الأحاسيس.. وتتهدم أركان الأخلاق.. وتتزلزل أعمدة القيم..
وليس بعامر بنيان قوم
إذا أخلاقهم كانت خرابا
وسوف يفجر الولد بأمه وذويه.. وتبيع البنت شرفها بأبخس الأثمان.. عندما تنعدم التربية.. وتراق الشهامة.. وتذاب الكرامة.. وتغتال المروءة.. ويذهب الحياء.. وعندما يعم الرضى بالدناءة.. والسكوت عن الحق.. وسلوك طريق الشيطان..
لمثل هذا يذوب القلب من كمد
إن كان في القلب إسلام وإيمان
وسوف يخون الزوج زوجته.. وتخون الزوجة زوجها.. ورغم أنهما قد تعاهدا بكتاب الله.. وبسنة نبيهم.. على عدم الخيانة.. وحفظ العهود والمواثيق.. وأن يحفظ كلاهما شرف صاحبه.. عندما يستهان بالمعصية ولو قلت.. والإعراض عن مبادئ القرآن السمحة.. وكثرة الخلاف والشقاق بين الزوجين.. وإتباعهم هوى النفس والشيطان.. والانحراف عن المنهج والصراط..
عجبت لمعشر صلُُّوا وصاموا
ظواهر خشية وتقى كذاباً
وسوف تقتل الأم وليدها وفلذة كبدها.. إثر نزوة حيوانية عابرة.. بسبب.. خوائها من القيم والأخلاق.. وابتعادها عن منهج منزل القرآن.. خالق الإنسان.. وإتباعها طريق النفس والهوى.. ومصاحبتها أهل الفسوق والبلى.. بعد موت الضمير.. وبُعدها عن الهدى.. ومصاحبة أهل الصلاح والتقى.. وإتباعها سبيل أهل الردى.. وسلوكها دروب الغوايات.. والانغماس في المحرمات..
ولا تحسبن الله يغفل ساعة
ولا أن ما يخفى عليه يغيب

كل هذه الأمور التي ذكرتها لك.. سببها الوحيد في نظري.. هو الابتعاد عن المنهج الذي خطه لنا الشارع العظيم.. وعدم الإقتداء بمسلك رسولنا الكريم.. وإتباع كل ثرثار وناعق من أهل الخناعات.. والتلذذ بعمل الفواحش والموبقات.. وندرة المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكرات.. والانغماس في دنيا الأموات.. ونسيان هادم اللذات .. وهذا ما آل إليه حال أمتنا..
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته
أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها
فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
فإذا رجعت إلى ما صلح به أولها.. تغلبت على الأوجاع والأسقام.. وانتصرت على المشكلات والأخطار.. وقضت على الفساد والضياع.. وعاشت في أمن وسلام.. وراحة وطمأنينة.. وعز وسؤدد..
شريعة الله للإصلاح عنوان
وكلُّ شيء سوى الإسلام خسران
لما تركنا الهدى حلت بنا محن
وهاج للظلم والإفساد طوفان
تاريخنا من رسول الله مبدؤه
وما عداه فلا عزٌّ ولا شان
محمد أنقذ الدنيا بدعوته
ومن هداه لنا روح وريحان
واعلم أيها الحبيب.. أن شجاعة القلب في الأزمات.. وثباته في الملمات.. وقوته عند الكربات.. وعدم انزعاجه للصادرات والواردات.. ومجانبة قلقه في المصيبات.. وتصفيته من الغل والأحقاد.. وتطهيره من الحسد والفساد.. فإنه في نهاية الأمر.. يفتح باب حل المعضلات.. ويهدأ القلب بعد الثوران.. وتسكن الروح بعد الطوفان.. وتخمد الأحاسيس بعد الاشتعال..
ربَّ أمر تزهق النفس له
جاءها من خلل اليأس فرج
لا تكن من روح ربي آيساً
ربما قد فرِّجت تلك الفرج
بينما المرء كئيب موجع
جاءه الله بروح فبهج
رب أمر قد تضايقت له
فأتاك الله منه بالفرج
وعند القناعة من الدنيا بالبلاغ.. وعدم الروغان مع من راغ.. ومجافاة كل طاغ وباغ.. فإن الجسم سيصمد أمام هجمات الجراثيم ومصارعة الأمراض.. وسيطرة الأسقام والأوجاع..
إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت
ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
وساقت إليه الإثم والعار بالذي
دعته إليه من حلاوة عاجل
وتطمئن النفس إثر الغدر والخيانة.. عند التوبة والإنابة.. ويتحد التركيز والتفكير بعد التيه والضياع.. ويجتمع الأخوة على مائدة القرآن.. وفي رضا الرحمـن.. ويلتقـي الصحـب والخلان.. بعد التشتت والهجران.. عندما نرضى بالله رباً.. وبالإسلام ديناً ومنهجاً.. وبالقرآن الكريم كتاباً ودستوراً.. وبمحمد صلى الله عليه وسلم مرشداً وهادياً ورسولاً..
من كان يرغب في النجاة فما له
غير إتباع المصطفى فيما أتى
ذاك سبيل المستقيم وغيره
سبل الغواية والضلالة والردى
واعلم أيها المحب.. أن اليسر مع العسر.. ومع الصبر الظفر.. وإن الغنى بعد الفقر.. والعافية بعد الضرر.. والأمل سيأتي بعد اليأس.. والقوة بعد الضعف.. والعزة بعد الذل.. والنور بعد الظلمة.. والنخوة بعد البرود.. والسكينة بعد الغضب.. والحب بعد الكراهية.. والمحبة بعد العداوة.. والسلم بعد الحرب.. واللقيا بعد الفراق والهجران.. والفرج بعد الشدة.. والنجاح من بعد الكفاح.. والصدق بعد الكذب.. والتواضع بعد التكبر.. والحقيقة بعد الرياء.. والتوبة بعد المعصية.. والندم بعد الخطأ والزلة.. والعدل والرحمة بعد الظلم والقسوة.. والفوز والنصر بعد الخسارة والهزيمة.. والإيمان بعد النفاق.. والراحة بعد الفراق.. والنوم بعد الأرق والهجران.. والمحبة بعد التيه والضياع.. والحياة بعد الممات.. والصحة بعد السقم.. والعافية بعد المرض.. والفرح والسرور بعد الضيق والحزن.. والسعادة بعد الكآبة.. والدهر.. ساعة حلو.. وساعة مر..
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى
فما انقادت الآمال إلا لصابر
واعلم أيها الحبيب.. عند جعل الأفكار فيما يفيد.. وعدم تأخير عمل اليوم إلى الغد.. وبدء الأعمال بالأهم.. مع تخير من الأعمال ما يناسب.. ومصاحبة أهل التقى والصلاح.. لأنهم طريق النجاة والفلاح.. ومعاملة الأهل والأصحاب.. برؤية المناقب ونسيان المثالب.. لأنه ما من أحد إلا وفيه معائب.. ولو تركت كل ذي عيب لن تجد من تصاحب.. والصبر عند نزول المصائب.. والتأسي بالمنكوبين والمصابين.. والبعد عن الأفكار المدمرة.. عندها يتبدل الحقد والكره إلى محبة ووئام.. ويتبدل الغضب إلى راحة وسكينة.. ويتبدل البغض والحسد إلى تسامح وإيثار وتضحية.. وتتبدل الإساءة إلى إحسان.. ويتبدل الكفر إلى توبة وغفران.. ويتبدل الغي والضلال إلى رشد وهدى.. ويتبدل الهلاك إلى نجاه.. ويتبدل المرض إلى صحة وعافية.. ويتبدل العذاب إلى نعيم مقيم.. ويتبدل الصمت القاتل إلى كلام يرضي رب الأنام.. ويتبدل البكاء إلى فرح وسرور.. ويتبدل الحزن إلى سعادة وراحة بال..
إذا اشتملت على اليأس القلوب
وضاق بما به الصدر الرحيب
وأوطنت المكاره واطمأنت
وأرست في أماكنها الخطوب
ولم تر لانكشاف الضر نفعاً
وما أجدى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث
يمن به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات وإن تناهت
فموصول بها فرج قريب
وعليك أيها السائل المحب.. بعدم اليأس.. مهما عظم البلاء.. واشتدت الظلماء.. وكثر الأعداء.. فإن الأمر بيد رب الأرض والسماء.. وعليك بالصبر الجميل.. وتفويض الأمر إلى الجليل.. والرضى بالقليل.. والعمل بالتنزيل.. والاستعداد ليوم الرحيل..
دع الأقدار تفعل ما تشاء
وطب نفساً إذا حكم القضاء
ولا تجزع لحادثة الليالي
فما لحوادث الدنيا بقاء
فلا حزن يدوم ولا سرور
ولا بؤس عليك ولا رخاء
إذا ما كنت ذا قلب قنوع
فأنت ومالك الدنيا سواء
وأرض الله واسعة ولكن
إذا نزل القضاء ضاق الفضاء
واعلم أيها المحب.. أن فضول العيش أشغال.. وكثرة المال أغلال.. وإقبال الدنيا هموم وأثقال.. وأن خير النعيم راحة البال.. ومن وقع في عرضك وفجر.. وأسمعك ما يوجب الضجر.. فتجاهله ولا تجبه حتى يندحر.. والكلب لا يملأ فمه إلا الحجر..
واحرص على حفظ القلوب من الأذى
فرجوعها بعد التنافر يصعب
إن القلوب إذا تنافر ودها
مثل الزجاجة كسرها لا يشعب
إياك واليأس أو القنوط أو الكسل والخمول والدعة على إثر الابتلاءات والكوارث والمصائب .. ثم إياك والاتكال على الأقدار والتواكل والفتور عن خوض غمار التجربة مرة أخرى إن لم تدرك مبتغاك ولم تصل إلى مطلبك ولكن إمضي إلى ما عزمت عليه قدماً دون توقف أو تردد موقنا أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك.. وعليك الأخذ بالأسباب أما النتائج فبيد الله سبحانه وتعالى..
حاول جسيمات الأمور ولا تقل
إن المحامد والعلا أرزاق
وارغب بنفسك أن تكون مقصراً
عن غاية فيها الطلاب سباق
لا تشفقن فإن يومك إن أتى
ميقاته لم ينفع الإشفاق
وفي الختام..
دون المعالي مرتقى شاهق
فطر إلى ذروته أوقع
من لم يخض غمرتها لم يشد
قواعد المجد ولم يرفع

((تمت))

حدائق ذات أفنان ج1 ـ رسائل وردود ـ الرسالة :( تساؤلات واستفسارات تحتاج إلى إجابة)

الرسالة:
تساؤلات واستفسارات تحتاج إلى إجابة :

لدي هموم وأحزان.. واستفسارات وتساؤلات.. لم أجد لها إجابة.. ولم أستنبط لها الحلول.. ولم أجد لها الموضع المناسب.. الذي أبثها فيه إلا أنتِ.. لعلمي ويقيني.. بأني سأجد بغيتي.. وسأحصل على ما يريحني.. فعقلكِ الراجح سوف يُلهم الإجابة.. وفكركِ السليم سوف يستنبط الحل..
يطيـب العيـش أن تلقـى حكيمـاً
غــذاه العلـم والفـهم المصيـب
فيكشـف عنـك حيـرة كل جهـل
وفضـل العلـم يعرفــه اللبيـب
سقـام الحـرص ليـس لـه شفـاء
وداء الجهـل ليـس لـه طبيـب
متى تفتح الأبواب.. وتزال الجدران.. ويجتمع في صحن الدار كل أخوتي وأحبتي؟!!..
شباب ذللوا سبل المعالي
وما عرفوا سوى الإسلام دينا
ومتى تكسر القيود.. وتقطع السلاسل.. وتذاب القضبان.. وتلغى الحواجز.. وتمزق الفواصل؟!!..
ما الحبس إلا بيت كل مهانة
ومذلة ومكاره ما تنفد
يكفيك أن الحبس بيت لا ترى
أحداً عليه من الخلائق يحسد
ومتى أرى المسلم عزيزاً أبياً.. والإسلام عالياً خفاقاً.. والأقصى حراً طليقاً.. والظالم ضعيفاً حقيراً؟!!..
أما لله والإسلام حق
يدافع عنه شبان وشيب
ومتى أرى الابتسامة تملأ الوجوه.. والسعادة تعم النفوس.. والمحبة تسيطر على القلوب؟!!..
فلم أرى مثل الهم ضاجعة الفتى
ولا كسواد الليل أخفق طالبه
ثم كيف يتحول ذلك الإنسان الذي كرمه الله سبحانه وتعالى عن باقي مخلوقاته.. إلى مسخ حيواني.. همه الوحيد.. إشباع جوعه.. في لحظة عابرة.. وشهوة عارمة.. ونزوة حيوانية بحتة؟!!.. رغم أنه
كفى زاجراً للمرء أيام دهره
تروح له بالواعظات وتغتدي
وكيف يتحول كثير من الناس.. من عبادة الرحيم البصير الجبار.. إلى عبادة الدرهم والدينار؟!!..
إذا طمع يحلُّ بقلب عبد
علته مهانة وعلاه هون
وكيف يقتل الأخ أخاه.. ويعق الابن أباه.. ويفجر الولد بأمه وذويه.. وتبيع البنت شرفها بأبخس الأثمان؟!!..
فيا موت زر إن الحياة ذميمة
ويا نفس جدي إن عيشك هازل
أم كيف يخون الزوج زوجته.. وتخون الزوجة زوجها.. وقد تعاهدا بكتاب الله.. وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؟!!.. وأصبح ويا للأسف شعارهم في الحياة :
وهل أنا إلا من غزية إن غوت
غويت وان ترشد غزية أرشد
أم كيف تقتل الأم وليدها وفلذة كبدها إثر نزوة حيوانية عابرة؟!.. حتى إنني..
عجبت حتى غمني السكوت
صرت كأني حائر مبهوت
وهل يا ترى يهدأ القلب بعد الثوران؟!.. أم هل تسكن الروح بعد الطوفان؟!.. أم هل تخمد الأحاسيس بعد الاشتعال؟!.. فـ
الدهر لا يبقى على حاله
لكنه يقبل أو يدبر
وهل سيصمد الجسم أمام هجمات الجراثيم ومصارعة الأمراض والأسقام؟!.. حيث
كم من عليل قد تخطاه الردى
فنجا ومات طبيبه والعوَّد
أم هل تطمئن النفس بعد الغدر والخيانة؟!.. أم هل يتحد التركيز والتفكير بعد التيه والضياع؟!.. أم هل يجتمع الأخوة على مائدة القرآن وفي رضى الرحمن؟!.. أم هل يلتقي الصحب والخلان بعد التشتت والهجران؟!..لأنه..
صوت الشعوب من الزئير مجمعٌ
فإذا تفرقت كان بعض نباح
وهل بعد الشدة من فرج؟!.. وهل بعد الكفاح من نجاح؟!.. وهل بعد الكذب من صدق؟!.. وهل بعد التكبر من تواضع؟!.. وهل بعد الرياء من حقيقة؟!.. وهل بعد الخطأ من ندم وتوبة؟!.. وهل بعد الظلم من عدل ورحمة؟!.. وهل بعد الهزيمة من فوز ونصر؟!.. وهل بعد النفاق من إيمان؟!.. وهل تعود الراحة بعد الفراق؟!.. وهل يعود النوم بعد الهجران؟!.. وهل تعود المحبة بعد التيه والضياع؟!.. وهل من حياة بعد الممات؟!.. وهل تعود الصحة بعد السقم؟!.. وهل تعود العافية بعد المرض؟!.. وهل يعود الفرح والسرور بعد الضيق والحزن؟!.. وهل تعود السعادة بعد الكآبة؟!.. وهل يعود الأمل بعد اليأس؟!.. وهل تعود القوة بعد الضعف؟!.. وهل تعود العزة بعد الذل؟!.. وهل يعود النور بعد الظلمة؟!.. وهل تعود النخوة بعد البرود؟!.. وهل بعد الغضب من سكينة؟!.. وهل بعد الكراهية من حب؟!.. وهل بعد العداوة من محبة؟!.. وهل بعد الحرب من سلم؟!.. وهل بعد الفراق من لقيا؟!..
وكيف يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
وهل يتبدل الحقد والكره إلى محبة ووئام؟!.. وهل يتبدل الغضب إلى راحة وسكينة؟!.. وهل يتبدل البغض والحسد إلى تسامح وتضحية وإيثار؟!.. وهل بعد الإساءة من إحسان؟!.. وهل بعد الكفر من توبة وغفران؟!.. وهل بعد الغي والضلال من رشد وهدى؟!.. وهل بعد الهلاك من نجاه؟!.. أم هل بعد المرض من عافية؟!.. أم هل بعد العذاب من حساب؟!.. وهل بعد الصمت من كلام؟!.. وهل بعد البكاء من سعادة؟!.. وهل بعد الحزن من فرح؟!.. وهل؟!.. وهل؟!.. فهل يا ترى؟!.. ومتى؟!!..
وما فتئ الزمان يدور حتى
مضى بالمجد قوم آخرونا
وأصبح لا يرى في الركب قومي
وقد عاشوا أئمته سنينا
وآلمني وآلم كل حر
سؤال الدهر أين المسلمونا؟!!
ترى هل يرجع الماضي فإني
أذوب لذلك الماضي حنينا
إني في انتظار الإجابة.. فلا تتأخري.. فقد أعياني التفكير.. وأقض مضجعي.. والذي سيؤدي بي في نهاية المطاف إلى الجنون!!.. إن لم أجد ما يروي عطشي.. ويشبع فكري!!.. لكني أحياناً
أعلل النفس بالآمال ارقبها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

حدائق ذات أفنان ج1 ـ رسائل وردود ـ الرد :( رسالة إلى زوجي الحبيب الغالي)

الرد:
رسالة إلى زوجي الحبيب الغالي:

الحمد لله الذي جعل الزواج ستراً وصيانة للنساء.. وكرمهن وصانهن من عبث العابثين.. وأوجب لهن حقوقاً.. وأشهد أن لا إله إلا الله.. وحده لا شريك له.. القائل في كتابه العزيز.. {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيراً }(النساء: 19).. وقوله سبحانه :{هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} (البقرة: 187).. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله.. خير من عاشر بمعروف.. القائل : << استوصوا بالنساء خيراً >> (صحيح مسلم [1468] ج2 ص1091) والقائل : <<خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي >> (صحيح ابن حبان [4177] ج9 ص484).. والقائل : << أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم خيارهم لنسائهم >> (موارد الظمآن [1311] ج1 ص318).. صلوات الله وسلامه عليه.. وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد..
وافى الكتاب فأوجب الشُّكرا
فضممته ولثمته عشرا
وخضضته وقرأته فإذا
أجلى كتاب في الورى يقرا
فمحاه دمعي من تحدُّره
شوقاً إليك فلم يدع سطرا
تحية طيبة معطرة بالورد والرياحين.. مبعوثة عبر نسائم الصباح.. ببريد الزمن.. لتصل إلى من ألهب مشاعري.. بالغبطة والسرور.. وأنار طريقي.. بإشراقة الحياة بعد ظلمة الوحدة.. وانتشلني من جحيم العنوس إلى جنة الحياة الزوجية.. إلى من قهر الصعاب.. وحارب كل من كان يقف عثرة في طريق حياتنا.. إلى من سلب لب عقلي.. وسيطر على مفتاح قلبي.. وملك زمام أمري..
إني أحبُّك حباً ليس يبلغه
فهم ولا ينتهي وصفي إلى صفته
أقصى نهاية علمي فيه معرفتي
بالعجز مني عن إدراك معرفته
إليك يا أغلى من أحببت.. وأطهر من عرفت.. وأنبل من عاشرت.. وأسمى من رأيت..
كم أحمل في هواك ذلاً وعنا
كم أصبر فيك تحت سقم وضنا
لا تطردني فليس لي عنك غنا
هذا نفسي إذا أردت الثمنا
إليك يا زوجي الحبيب الغالي.. فقد وصلتني رسالتك.. وأسعدني كلامك.. وسرني بيانك.. وفهمت مرامك.. ولقد قرأتها مرات ومرات.. فكلماتك أثلجت صدري.. وأبهجت نفسي.. وكانت برداً وسلاماً على قلبي.. وزادت من أشواقي إليك أكثر وأكثر.. فالدنيا يا قرة عيني.. حلوة نضرة بوجودك.. وعبوسة كالحة بفقدك وغيابك..
إن يطل بعدك ليلي فكم
بتُّ أشكو قصر الليل معك
وأعلم يا زوجي الحبيب.. أنك شريان حياتي.. ومبلغ أملي.. وراحة بالي.. ومهما حاولت.. فلن أصل إلى عظيم أخلاقك.. وصدق عواطفك.. ومهما حاولت.. فلن أوفيك حقوقك.. ولكن يكفيني من الدنيا.. أن نعيش معاً.. ويظلنا سقف واحد.. ولا تفرقنا الأماني.. ولا تبعدنا الأحلام.. ولا تشتتنا الأوهام.. فليس لي هدف في هذه الحياة.. إلا إسعادك.. وليست لي غاية.. إلا إرضاؤك.. فرضاك عني هو جنتي.. وابتسامتك في وجهي هي نعمائي وسعادتي..
ما تقلبت من نومي وفي سنتي
إلا وذكرك بين النفس والنفس
زوجي الحبيب.. قد كنت في الحقيقة.. أستمع لكلام بعض الناس.. ظانة أنهم يريدون مصلحتي.. ويبحثون عن سعادتي.. وهمهم الوحيد هو سروري ورضاي.. فكنت أستمع لنصحهم.. وأمتثل لرأيهم.. بحسن نية.. وطيبة نفس.. ولم أعلم بأني في عالم مليء بالوحوش والأفاعي.. تتلون وتتشكل حسب الأهواء والرغبات.. لكي تخدع فريستها.. وتنقض على ضحيتها..
خبرت بني الأيام طراً فلم أجد
صديقاً صدوقاً مسعداً في النوائب
وأصفيتهم مني الوداد فقالوا
صفاء ودادي بالقذى والشوائب
وما اخترت منهم صاحباً وارتضيته
فأحمدته في فعله والعواقب
ورغم هذا.. لم يكن عملي هذا.. لإرضاء نفسي.. ولا لإشباع رغباتي.. وإنما كنت أبحث عما يريحك.. وعما يسعدك.. ويهدأ بالك.. ولما نبهتني لهذا الأمر.. ونصحتني بالابتعاد عنهم.. تنبهت لخطئي.. ورجعت عن أمري.. واستغفرت ربي.. وعدت إلى رشدي..
اقبل معاذير من يأتيك معتذراً
إن برَّ فيما قال أو فجرا
واعلم يا زوجي الغالي.. إن سبب بحثي واهتمامي.. لما يرضيك ويسعدك.. هو أني أحببتك حباً لا يوصف.. فملك حشاشة قلبي.. وسيطر على مجريات تفكيري.. ولهذا فإنك تجدني :
أغار عليك من نظري ومني
ومنك ومن مكانك والزمان
ولو أني خبأتك في جفوني
إلى يوم القيامة ما كفاني
ولكني أعاهدك بالله يا زوجي الحبيب.. بأني سأكون طوع أمرك.. ورضى نفسك.. فلا ترى مني شيئاً إلا ما يسرك.. فتعال بنا نبدأ صفحة جديدة.. نسلك فيها درب الرحمن.. ونمشي في طريق الرضوان.. ونتحد ضد حزب الشيطان.. لنعيش في هذه الحياة في وئام وسلام.. فإني والله أحببتك بكل جوارحي.. ولا أستطيع التخلي عنك.. ولا أتصور حياتي بدونك..
لقد جرى الحبُّ مني
مجرى دمي في عروقي
فاعذرني يا زوجي الغالي.. على كلماتي المتواضعة.. وجملي المتفككة.. وأفكاري المفبركة.. فهي لا تمثل إلا جزءاً يسيراً مما يختلج في قلبي.. فيغذي شراييني.. ويسعد نفسي.. وتبتهج روحي.. فلساني لا يقدر أن يصف شعوري.. وقلبي لا يبين عن سروري.. وقلمي لا يستطيع أن يعبر عن أحاسيسي.. وبناني لم يطاوعني في كتابة جملي وأفكاري..
كتبت إليك بماء الجفون
وقلبي بماء الهوى مشرب
فكيف أخطُّ وقلبي يمل
وعيني تمحو الذي أكتب
فليس يتمُّ كتابي إليك
بشوقي فمن هنا أعجب
وأعلم أن سعادتي بوجودك.. وسروري بلقائك.. وحبوري برؤية وجهك الوضاء الباسم.. فأنت قمر أضاء ظلمة حياتي.. فأشرقت شمس صبحي.. ولمت شعث أفكاري.. وأنارت عتمة ليلي.. وأنت كالهواء الذي لا يمل.. وكالماء الذي لا يستغنى عنه.. ولكن..
أسلم إن أراد الله أمراً
فأترك ما أريد لما يريد
وبرغم ذلك إلا إنني قطعت عهدا على نفسي يا زوجي الحبيب.. بأن أكون طوع أمرك.. وأن أكون نعم الزوجـة لك.. وأن لا تـرى مني إلا ما يسرك.. وأن أحرص على إسعادك ما استطعت.. وأن تكون حياتك كلها سعادة وسرور.. وأعلم..
أن المحب إذا أحب حبيبه
صدق الوفاء وأنجز الموعودا
نعم.. هذا ما قد رسمته لمستقبلي معك.. الحرص على إسعادك وإرضائك ما استطعت..
فليتك تحلو والحياة مريرة
وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر
وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين
وكل الذي فوق التراب تراب
وفي الختام أقول لك :
قد كنت من قبل النوى
مما ألاقي جزعا
تركتموني بعدكم
أشرب دمعي جرعا

التوقيع : زوجتك المخلصة دوماً

حدائق ذات أفنان ج1 ـ رسائل وردود ـ الرسالة :( رسالة إلى زوجتي الغالية)

الرسالة :
رسالة إلى زوجتي الغالية :

(إلى زوجتي الغالية ):

الحمد لله الذي خلق لنا من أنفسنا أزواجاً.. وجعل علاقة الزوج بزوجته تقوم على التعارف والمودة.. والرحمة والصيانة.. والحفظ والعفة.. وأشهد أن لا إله إلا الله.. وحده لا شريك له.. القائل في كتابه العظيم : {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(الروم: 21).. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله.. حض على الألفة بين الزوجين.. وضرب لنا أروع الأمثلة في التعامل مع زوجاته.. القائل : << ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرا له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته وإن نظر إليها سرته وإن أقسم عليها أبرته وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله>> (سنن ابن ماجة [1857] ج1 ص596).. وقوله صلى الله عليه وسلم عندما سأل عن أي المال خير فقال: << أفضله لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه>>(مسند أحمد [22446] ج5 ص278) .. صلوات الله وسلامه عليه.. وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:
فررت من اللقاء إلى الفراق
فحسبي ما لقيت وما ألاقي
سقاني البين كأس الموت صرفاً
وما ظني أموت بكف ساقي
فيا برد اللقاء على فؤادي
أجرني اليوم من حر الفراق
أيتها الزهرة المشرقة.. والوردة المتفتحة.. والعطر الندي.. يا صاحبة الابتسامة الوضاءة المشرقة.. التي غمرت روحي بإشراقها.. وأذابت عن كاهلي أحزاني وآلامي.. وجددت لي آمالي وتطلعاتي.. ويا صاحبة الجمال الذي جمله الحياء.. وعطره الصدق.. وزانه طاعة الرحمن.. والابتعاد عن مسالك الشيطان.. وسلوك درب أهل الرضوان..
نفسي الفداء لمن عصيت عواذلي
في حبِّه لم أخش من رقبائه
الشمس تطلع عن أسرة وجهه
والبدر يطلع من خلال قبائه
يا نور عيني وبصيص أملي.. ما عاد لي بعدكِ جسدٌ تأوي إليه روحي.. أو يضم بين جنبيه بقايا قلبي.. أو مكان أخبئ فيه أحاسيسي ووجدي.. أو موضع يستوعبه عقلي وفكري..
ودعت قلبي حين ودعتهم
وقلت يا قلبي عليك السلام
وصحت بالنوم انصرف راشداً
فإن عيني بعدهم لا تنام
فشوقي لكِ هد حيلي.. وأضعف جسمي.. وأذهب عقلي.. وبعدك عني.. حطم آمالي.. وأزاح تطلعاتي.. وقضى على أفراحي.. وهدم سعادتي.. وتبخرت أحلامي.. وذابت أفكاري.. وأنا أجري وراء هدفي وغايتي.. كجري العطشان وراء السراب.. لا يجد منتهاه.. ولا يصل إلى غايته.. ولا يعرف طريقه.. ولا إلى أي الجهات يكون سبيله؟!!..
هل أنت شافية قلباً يهيم بكم
لم يلق عروة من عفراء ما وجدا
ما في فؤادي من داء يخامره
إلا التي لو رآها راهب سجدا
فيا نور قلبي.. ونبراس حياتي.. كلماتي لا تسعك.. وجملي لا تستوعبك.. فأنتِ أعظم وأرقى وأسمى.. من أن يخطها بناني.. أو يلوجها لساني.. أو يصفها قلمي.. أو يعبر عنها وجداني.. أو يسطرها دمي.. أو يتخيلها فكري.. أنت وردة في بستان من الأشواك.. ونسمة في زمن العواصف والرياح.. ونور في عصر الظلمة.. وصفاء في زمن الغيوم المظلمة.. والقلوب المعتمة.. وجوهرة ازدانت بها الحياة..
أحبك يا شمس الزمان وبدره
وإن لامني فيك السهى والفرقد
إني أرسل إليكِ اعترافي واعتذاري.. بسبب خطئي وتقصيري.. فقلبكِ الواسع يتحمل هفواتي.. وعقلكِ الكبير يغفر زلاتي.. وأخلاقكِ الأصيلة تمنعكِ من مقاضاتي.. وإحساسكِ المرهف من المستحيل أن يصدق على مقاطعتي.. وعواطفكِ الصادقة أبداً لا تفكر في فراقي.. فرفقاً بنفسكِ وبي يا حياتي وعمري..
أمازحها فتغضب ثم ترضى
فكل فعالها حسن جميل
فإن غضبت فأحسني ذي دلال
وإن رضيت فليس لها مثيل
ونصيحتي لكِ أن لا تنصتي لنصح الجاهلين.. أو تلتفتي لكلام الحمقى.. أو تحزني لمقولة الحاسدين.. ولا تكترثي بشماتة الأعداء.. أو نظرات الحاقدين.. أو شعارات البله.. ولا تنخدعي بالأشكال البراقة.. والجلود الملساء.. فإنها أفاعي ووحوش.. تنتظر غفلتك.. وتترقب رقدتك.. لتنهش جسدكِ.. فكوني على حذر..
لا يكن ظنُّك إلا سيئاً
إنَّ سوء الظن من أقوى الفطن
ما رمى الإنسان في مهلكة
غير حسن الظن والقول الحسن
وإني والله عكس ما يقولون.. ومخالف ما يفعلون.. وسالك طريقاً هم عنه مبتعدون.. ومنهجاً هم له مناهضون..
تحكَّموا فاستطالوا في تحكُّمهم
وعمَّا قليل كأن الأمر لم يكن
لو أَنْصَفُوا أُنْصِفُوا لكن بغوا فبغى
عليهم الدهر بالأحزان والمحن
فأصبحوا ولسان الحال ينشدهم
هذا بذاك ولا عتب على الزمن
ولهذا هم لي محاربون.. وللقضاء عليّ هم مبرمون.. ولتكميم قلمي.. وتمزيق ورقي.. وقطع لساني.. وبتر قلبي.. وسلب عقلي.. ومحو أفكاري.. هم ماضون.. ولكني..
اعرض عن الجاهل السفيه
فكلُّ ما قال فهو فيه
ما ضرَّ بحر الفرات يوماً
إن خاض بعض الكلاب فيه
ولكني رسمت طريقاً هم عنه غافلون.. ومن منهجه محاذرون.. وفكراً هم له مناوئون.. وأسلوباً هم عن مبتعدون.. أسأل الله العلي القدير العون والتأييد.. على كل جبار عنيد.. وكل من خالف منهج الرب الودود..
متى يشتفي منكِ الفؤاد المعذب
وسهم المنايا من وصالك أقرب
فبعد ووجد واشتياق ورجفة
فلا أنت تدنيني ولا أنا أقرب
كعصفور في كف طفل يزمها
تذوق حياض الموت والطفل يلعب
فلا الطفل ذو عقل يرق لحالها
ولا الطير مطلوق الجناح فيهرب
ولو كان لي قلبان عشت بواحد
وأفردت قلباً في هواكِ يعذب
ولي ألف وجه قد عرفت طريقه
ولكن بلا قلب إلى أين يذهب
وفي الختام أقول لكِ :
إن كان عهود وصلكم قد درست
فالروح إلى سواكم ما أنست
أغصان هواكم بقلبي غرست
منوا بلقائكم وإلا يبست

التوقيع :
زوجك المحب أبداً

حدائق ذات أفنان ج1 ـ الرسائل : 6) (رسالة إلى متكبر)

الرسالة السادسة:
رسالة إلى متكبر:

الحمد لله العزيز الجبار.. جلت عظمته.. وسمت حكمته .. وتجلت في خلقه قدرته.. وعمت على عباده نعمته.. ولا شريك له في ملكه.. إن يشأ يرحم وإن يشأ يعذب.. فمجاز من اهتدى واتقاه.. بجنة رحيبة شيِّقة.. ومعذب من بغى وتكبر.. بنار مستعرة.. وقودها الناس والحجارة.. كسر ظهور الأكاسرة عزه وعلاه.. وقصر أيدي القياصرة عظمته وكبرياؤه.. فالعظمة إزاره.. والكبرياء رداؤه.. ومن نازعه فيهما قصمه بداء الموت فأعجزه دواءُه.. القائل في كتابه العزيز : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } (الأعراف: 146).. وقوله : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ } (النحل:23).. وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } (غافر: 60).. وقوله : { فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } (الزمر:72، غافر76).. وقوله : { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } (الدخان: 43ـ 49) .. والصلاة والسلام على خير مبعوث في الأنام .. الآمر بالتواضع.. والناهي عن الغرور والتكبر.. القائل في الحديث القدسي : << يقول الله سبحانه الكبرياء ردائي والعظمة إزاري من نازعني واحداً منهما ألقيته في جهنم >> (سنن ابن ماجه [4174] ج2 ص1397) والقائل : << يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال>> (سنن الترمذي [2492] ج4 ص655) والقائل : << بئس العبد عبد تخيل واختال ونسي الكبير المتعال.. بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسي الجبار الأعلى.. بئس العبد عبد سها ولهى ونسي المقابر والبلى.. بئس العبد عبد عتا وطغى ونسي المبتدأ والمنتهى>> (سنن الترمذي [2448] ج4 ص632).. وعلى آله وصحبه المتقين الأكرمين.. وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .. أما بعد:
كم جاهل متواضع
ستر التواضع جهله
ومميز في علمه
هدم التكبر فضله
فدع التكبر ما حييت
ولا تصاحب أهله
فالكبر عيب للفتى
أبدا يقبح فعله

هذه رسالة أرسلها إليك.. بعد أن نفذت كل الطرق والأساليب في إرجاعك إلى حظيرة الإسلام.. ولكني لم أيأس.. فلعل هذه الرسالة تلاقي قلباً واعياً.. وعقلاً ألمعياً.. تزيح عنه غشاوة الظلام بنور اليقين.. وتبدد سحاب الجهل بنسمات الحق..
جد في الجد قد تولى العمر
كم ذا التفريط قد تدانى الأمر
أقبل فعسى يقبل منك العذر
كم تبنى وكم تنقص كم ذا الغدر

فاعلم هداك الله إلى ما يحبه ويرضاه.. أن هذه الحياة مهما طالت وامتدت.. وعمر فيها الإنسان ما عمَّر.. وعاش فيها ما عاش.. وأخذ فيها بمباهجها وزخرفها.. إلا أنها ليست بدار قرار ولا استقرار.. وليست بدار خلود ولا بقاء.. ولا دوام ولا استمرار..
أرى الدنيا لمن هي في يديه
هموماً كلما كثرت لديه
تهين المكرمين لها بصغر
وتكرم كل من هانت عليه
إذا استغنيت عن شيء فدعه
وخذ ما أنت محتاج إليه
إن التقوى من الدنيا بلاغ
ورزق المرء مبعوث إليه

فالدنيا إنما هي دار عبور وسفر.. ورحيل وانتقال.. يعبر منها الإنسان.. إلى دار باقية خالدة.. لا يفنى نعيمها.. كما لا ينقطع عذابها.. فهي تنقسم إلى قسمين.. ويماز أهلها إلى فريقين : { فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِير} (الشورى: 7).. ينتقل الإنسان إلى تلك الدار.. التي فيها من النعيم لعباد الله الصالحين.. ما لا عين رأت.. ولا أذن سمعت.. ولا خطر على قلب بشر.. ولا تخيله وهم ولا فكر.. فالألباب تحار في حسن صنعة الجنة.. وجمال هيئتها.. وبهجة منظرها.. وعظيم سعتها.. فاسمع معي حينما يصفها من يعرفها.. فيقول سبحانه : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } (محمد: 15)..
وقوله سبحانه : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ* لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا * وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَاء مَّسْكُوبٍ* وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} (الواقعة: 10ـ 40).. وغيرها من الآيات الكثيرة.. في وصف الجنة.. والنعيم الذي أعده الله تعالى للطائعين..
إن لله عباداً فطنا
تركوا الدُّنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا
أنها ليست لحيٍّ وطنا
جعلوها لجَّة واتخذوا
صالح الأعمال فيها سفنا

والله سبحانه.. كما أعد للطائعين الثواب.. أعد للعاصين العقاب.. فقد أعد للعصاة المعاندين المتكبرين.. ما لا عين رأت.. ولا أذن سمعت.. ولا خطر على قلب بشر.. ولا تخيله وهم ولا فكر.. فاسمع معي حينما يصفها من يعرفها.. فيقول سبحانه : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا } (النساء: 56) ..
وقوله : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ } (الحاقة: 25ـ 37).. وغيرها من الآيات الكثيرة.. في وصف العقاب الذي أعده الله تعالى للعاصين..
إذا ما ظالم استحسن الظلم مذهباً
ولجَّ عتواً في قبيح اكتسابه
فكله إلى صروف اللَّيالي فإنها
ستبدي له ما لم يكن في حسابه
فكم قد رأينا ظالماً متمرداً
يرى النجم تيهاً تحت ظل ركابه
فعما قليل وهو في غفلاته
أناخت صروف الحادثات ببابه
فأصبح لا مال ولا جاه يرتجى
ولا حسنات تلتقي في كتابه
وجوزي بالأمر الذي كان فاعلاً
وصبَّ عليه الله سوط عذابه


واسمع معي عقاب المتكبرين في الآخرة .. يقول سبحانه : وقوله : { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } (الدخان: 43ـ 49).. فها أنت قد علمت.. ماذا أعد الله للطائعين من عباده.. وماذا أعد للعاصين من عباده.. والخيار راجع لك.. أي الطريقين تختار أن تسلكه.. طريق الشقاوة والضلال.. الذي آخره ندم وتحسر.. أم طريق الهدى والإيمان.. والذي آخره راحة وطمأنينة.. ونعيم مقيم..
يا مظهر الكبر إعجاباً بصورته
أنظر خلاك فإن النتن تثريب
لو فكر الناس فيما في بطونهم
ما استشعر الكبر شبان ولا شيب
هل في ابن آدم مثل الرأس مكرمة
وهو بخمس من الأقذار مضروب
أنف يسيل وأذن ريحها سهك
والعين مرفضة والثغر ملعوب
يا ابن التراب ومأكول التراب غداً
أقصر فإنك مأكول ومشروب


أيها الرجل.. دع عنك التسويف وتأجيل التوبة.. إلى ما بعد الشباب.. فالموت أقرب إليك من حبل الوريد.. ولا تغررك الدنيا بزخرفها وبريقها.. فهي خداعة مكارة.. لا يأمن جانبها..
كم ضاحك والمنايا فوق هاماته
لو كان يعلم غيباً مات من كمد
من كان لم يؤت علماً في بقاء غد
ماذا تفكُّره في رزق بعد غد


أيها الرجل.. ماذا تفعل لو جاءك الموت.. وأنت على تلك الحالة من الكبر والغرور.. والروح في تغرغرها.. وقد بلغت الحلقوم.. فكيف يكون حالك.. وما هو مآلك.. وترى الأهل واقفين بجوارك.. هذا يبكي.. وذاك يصيح.. وذاك يتلوى.. وذاك يتألم.. وبعد لحظة.. خرجت الروح.. وبدؤوا يغسلونك.. وفي الأكفان يضعونك.. وفي القبر بعد أن صلوا عليك يتركونك.. وبالحصـى والطين يغطونك.. فهل فكرت واستعددت لهذا العمل؟! وهل انتبهت من غفلتك؟!..
وكم من عبرة أصبحت فيها
يلين لها الحديد وأنت قاس
إلى كم والمعاد إلى قريب
تذكر بالمعاد وأنت ناس
وبادرت إلى التوبة والرجوع إلى الحق.. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى } (النازعات: 26)..
وجوههم من سواد الكبر عابسة
كأنما أوفدوا غصباً إلى النار
هانوا على الله فاستاءت مناظرهم
يا ويحهم من مناكيد وفجَّار
ليسوا كقوم إذا لاقيتهم عرضاً
أهدوك من نورهم ما يتحف الساري
من تلق منهم فقد لاقيت سيدهم
مثل النجوم التي يسري بها الساري

حدائق ذات أفنان ج1 ـ الرسائل : 5) (رسالة إلى صديق)

الرسالة الخامسة :
رسالة إلى صديق:

الحمد لله الذي جمع بالقرآن القلوب المتنافرة.. وأحيا به الضمائر الغارقة.. والذي يحب الكلمة الطيبة.. ويكره الكلمة الخبيثة .. لأن الكلمة الطيبة تؤلف بين القلوب.. وتقرب إلى علام الغيوب.. { مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (فاطر: 10).. وأشهد أن لا إله إلا الله.. وحده لا شريك له.. يدعو إلى المحبة والوئام وحسن الكلام.. القائل : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (الحجرات : 10).. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وسيد الأنام.. القائل : << إن أحدكم مرآة أخيه فإن رأى به أذى فليمطه عنه>> (سنن الترمذي [1929] ج4 ص325) والقائل : << عليكم بإخوان الصدق فإنهم زينة في الرخاء وعصمة عند البلاء>> (الأخبار والآثار ج1 ص79) .. صلى الله عليه وسلم وبارك.. وعلى آله الطيبين الطاهرين.. ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد..

فاعلم يا أخي العزيز..
إذا المرء لا يرعاك إلا تكلُّفاً
فدعه ولا تكثر عليه التأسفا
ففي الناس أبدال وفي الترك راحة
وفي القلب صبر للحبيب ولو جفا
فما كلُّ من تهواه يهواك قلبه
ولا كل من صافيته لك قد صفا
إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة
فلا خير في ودٍّ يجيء تكلُّفا
ولا خير في خلٍّ يخون خليله
ويلقاه من بعد المودة بالجفا
وينكر عيشاً قد تقادم عهده
ويظهر سراً كان بالأمس قد خفا
سلام على الدنيا إذا لم يكن بها
صديق صدوق صادق الوعد منصفا


أخي في الله.. أحييك بتحية الإسلام .. تحية أهل الجنة في الجنة .. تحية المؤمنين الصادقين .. فالسلام عليك ورحمة الله وبركاته.. لقد وصلتني رسالتك الكريمة.. فغمرتني بالراحة والسرور.. والطمأنينة والحبور.. ولكن عكر صفو فرحتي.. بعض الأمور.. حيث استنبطت من رسالتك.. إنك تعيش في جو من الآلام والأحزان .. وهذا لا ينبغي من أمثالك.. ممن يتصفون برجاحة العقل.. وسعة الصدر.. وحسن المنطق.. وإني على يقين.. بأنك قادر على تحمل أعباء كل المشكلات والمعضلات.. وعلى إذابة كل الصعاب والمحن.. وهذا حسن ظني فيك.. وأرجو أن تعتبرها مجرد سحابة صيف.. ستنقشع وتزول..
دع المقادير تجري في أعنتها
ولا تبيتن إلا خالي البال
ما بين غمضة عين وانتباهتها
يغير الله من حال إلى حال


واعلم أخي العزيز.. أن كل مؤمن مبتلى في حياته.. فهذه الدنيا دار اختبار.. لا ينجح فيها إلا من له قلب طاهر نقي.. كطهر الملائكة.. ونقاء الأنبياء والمرسلين.. وعرف ربه.. فعبده حق عبادته.. وقد قال الله تعالى.. في كتابه العزيز.. في سورة العنكبوت : {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت:2ـ3) .. فالإنسان في هذه الدنيا يا أخي العزيز.. يكون اختباره على حسب إيمانه.. فكلما زاد إيمان المرء.. زاد ابتلاؤه واختباره.. ولا يصمد إلا صادق الإيمان.. نتمنى من الله أن نكون من ضمنهم.. ومن المثال يتضح المقال : فمثلاً طلاب المدارس.. فإنهم في كل سنة ينتقلون.. من فصل إلى فصل.. أعلى منه مستوى ودراسة.. ولا ينتقل إلا الطالب المجتهد.. المثابر المخلص.. في عمله وواجبه ودراسته .. فيتعدى الفصول.. فصلاً تلو فصل.. ويتعدى المراحل.. مرحلة بعد مرحلة.. وكلها اختبارات في اختبارات.. ولا يصمد فيها ـ وكما قلنا سابقاً ـ إلا المجد المجتهد.. ثم بعد الانتهاء من مرحلة المدرسة.. ينتقلون إلى المرحلة المتقدمة.. ـ أي المرحلة الجامعية (دبلوم أو بكالوريوس ) ـ والعدد يقل ثم الدراسات العليا.. ( ماجستير ) .. فالدكتوراه.. ثم الأستاذية.. وهكذا نجد إن نسبة ضئيلة جداً تصل إلى هذا الحد.. من التفوق والنجاح..
كيف يرجوا من به كسل
نيلما قد ناله الرجل
من يريد العز يطلبه
في دروب ما بها سهل

فكذلك المؤمنون.. فإن نسبة قليلة تجتاز الاختبار الإلهي.. { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سبأ: 13).. { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} (ص: 24).. نسأل الله أن نكون منهم..
اصبر على مضض الإدلاج في السحر
وفي الروح إلى الحاجات والبكر
لا تجزعن ولا يضجرك محبسها
فالنجح يتلف بين العجز والضَّجر
إني رأيت وفي الأيام تجربة
للصبر عاقبه محمودة الأثر
وقل من جد في أمر يحاوله
فاستصحب الصبر إلا فاز بالظفر


والإنسان يا أخي الحبيب.. إذا وصل إلى درجة كبيرة من الإيمان بالله.. وامتلأ وتشبع قلبه بالإيمان.. فإنه سيصبح على يقين.. بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه.. وأن ما أخطئه لم يكن ليصيبه.. فيعيش في كلا الحالتين.. في رضى وسعادة.. بما قسمه الله له في الحياة الدنيا.. وهذا هو الفرق بين المؤمن والكافر عند حدوث المصيبة.. فالمؤمن يحس بسعادة ورضا بما قدره الله.. والكافر يحس بحزن وضيق وتشاؤم وعبوس وقنوط.. فالإيمان بالقضاء والقدر.. هي القاعدة التي يجب أن يثوب إليها المؤمن.. في كل أمر ألم به سواء خير أو شر.. والتي يجب أن يسير على نهجها في هذه الحياة.. ولا يتزحزح عنها قيد أنمله..
لما رأيتك قاعداً مستقبلاً
أيقنت أنك للهموم قرين
فارفض بها وتعرَّ من أثوابها
إن كان عندك للقضاء يقين
ما لا يكون فلا يكون بحيلة
أبداً وما هو كائن سيكون
يسعى الذكيُّ فلا ينال بسعيه
حظاً ويحظى عاجز ومهين
سيكون ما هو كائن في وقته
وأخو الجهالة متعب محزون

وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم .. أن كل ما يصاب به المؤمن.. من شر أو مصيبة ثم يصبر عليها.. محتسباً أمره إلى الله سبحانه وتعالى.. يجازى على إثر ذلك.. بالثواب الجزيل.. والأجر العظيم.. ففي الحديث: << ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه >> (صحيح البخاري [5318] ج5 ص2137).. كذلك يجب أن لا تُثبطنا المشكلات والمصائب.. وتجعلنا نعيش في سجن الأحزان والآلام.. وترمينا في بحر من التشتت والأوهام.. وتبعدنا عن مخالطة الأنام.. وتكمشنا عن ممارسة أعمالنا وواجباتنا.. بل يجب أن تعطينا هذه المشاكل.. الدافع القوي.. للتحدي والإصرار.. وعدم اليأس والقنوط.. ونكون دائماً.. متفائلين بتوفيق الله.. ونصره لنا.. لأن كل هذه المصائب.. التي ألمت بنا.. إنما تعتبر غسيلاً لخطايانا.. وتكفيراً لذنوبنا.. وليكن نصب عينيك.. حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : << ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وفي ماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة>> (صحيح ابن حبان [2924] ج7 ص187)..
إذا اشتملت على اليأس القلوب
وضاق بما به الصدر الرحيب
وأوطنت المكاره واطمأنت
وأرست في أماكنها الخطوب
ولم تر لانكشاف الضُّر نفعاً
وما أجدى بحيلته الأريب
أتاك على القنوط منك غوث
يمن به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات وإن تناهت
فموصول بها فرج قريب

والمشكلات التي تعاني منها.. وتعصرك بالآلام والأحزان.. وتبعدك عن مشاركتنا في أعمالنا.. وفي حياتنا اليومية.. فإني أدعو الله أن يزيلها عنك.. ـ وكما قلت لك سابقاًـ إذا وضعت هذه المشكلات.. في تلك القاعدة.. فإنها تصبح من السهولة بمكان.. معالجتها والقضاء عليها.. والمؤمن مبتلى.. والله سبحانه وتعالى قد أحبك.. فابتلاك بالمشكلات.. ليعلم مدى صدق إيمانك.. وتوكلك عليه.. وهل على إثر هذه المصائب والمشكلات.. قد أصبت بضجر أو سأم.. أو قنوط أو ملل.. هذه كلها اختبارات.. وكما قلت : إن الله سبحانه وتعالى.. إذا أحب عبده ابتلاه واختبره.. وقد جاء في السنة النبوية المطهرة.. على صاحبها أفضل الصلوات والتسليم.. إنه قال : << عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له>> (صحيح مسلم [2999] ج4 ص2295)..
لا تعجلن فربما
عجل الفتى فيما يضره
فالعيش أحلاه يعو
د على حلاوته بمره
ولربما كره الفتى
أمراً عواقبه تسره

فهذا الحديث الشريف.. يدل على أن كل الأمور الحادثة على المرء.. سواء كانت خيراً أو شراً.. فإنها تنصب في النهاية في مصلحة المؤمن.. إذا شكر النعمة.. وصبر على المصيبة.. أما إذا ضجر من المصيبة.. أو لم يشكر نعم الله عليه.. فإنها تصبح في غير صالحه.. ويلاقي من الله الجزاء.. لقوله صلى الله عليه وسلم : << إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط >> (سنن الترمذي [2396] ج4 ص601).. وفي حديث آخر.. قال عليه أفضل الصلاة والسلام: << إذا أراد الله بعبده الخير عجل في الدنيا وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة >>(سنن الترمذي [2396] ج4 ص601).. وكما عودتنا دائماً.. بطول البال.. وسعة الصدر.. والنظرة الشاملة.. فمثل هذه الأمور ستزول بإذن الله..
اصبر لكل مصيبة وتجلد
واعلم بأن المرء غير مخلد
واصبر كما صبر الكرام فإنها
نوب تنوب اليوم تكشف في غد
وإذا ذكرت مصيبة تشجى بها
فاذكر مصابك بالنبي محمد


واعلم أخي العزيز.. أن على الإنسان.. إذا أصابته مصيبة.. أن يستعين بالله أولاً.. ثم بعد ذلك.. يقوم بدراسة وتحري عن المشكلة.. ومعرفة الأسباب.. والحلول الكفيلة والناجعة لإصلاح هذا الخلل.. ثم بعد ذلك.. يكون عليه تطبيق الحلول المستنتجة والمقترحة.. وكذلك على الإنسان.. أن يستشيـر من هم أكثر منه.. قدرة وخبـرة.. في حـل مثل هذه المشكـلات والمعضلات.. ممن يثق في إخلاصهم.. ويطمئن لصدقهم.. فيحاولوا أن يستنبطوا الحلول المناسبة للمشكلة.. فإنه إذا اجتمعت مجموعة من العقول.. فإنه بإذن الله سيجدون الحل المناسب.. ومعرفة الداء يتطلب معرفة الدواء.. وفي الختام أقول :
لا تسألن بني آدم حاجة
وادع الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله
وبني آدم حين يسأل يغضب

حدائق ذات أفنان ج1 ـ الرسائل : 4) (رسالة إلى أصحاب الدماء الزرقاء)

الرسالة الرابعة:
رسالة إلى أصحاب الدماء الزرقاء:

الحمد لله الذي خلق الإنسان من طين.. أمر بطاعته ونهى عن التكبر والغرور..‍ القائل في كتابه العزيز :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات:11).. والقائل :{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13).. وأصلي وأسلم على خير مبعوث للأنام.. محمد نبي الإسلام.. القائل : << بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم >> (صحيح مسلم [2564] ج4 ص1986).. والقائل : << وإن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد >>(صحيح مسلم [2865] ج4 ص2198] .. والقائل : << كلكم لآدم وآدم خلق من تراب >>(سنن الترمذي [3955] ج5 ص734) .. صلى الله عليه وسلم وبارك.. وعلى آله الطيبين الطاهرين.. ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد..
فكم ذا رأينا ظالماً متجبراً
يرى النجم ـ تيهاً ـ تحت ظل ركابه
فلما تمادى واستطال بجوره
أناخت صروف الحادثات ببابه
وعوقب بالذنب الذي كان يجتني
وصبَّ عليه الله سوط عذابه
فلا فضة تحميه عند انفضاضه
ولا ذهب يثنيه عند ذهابه
عجبت منكم يا أصحاب الدماء الزرقاء.. كيف تعيشون وفيما تفكرون.. عفواً يا أصحاب الدماء الزرقاء.. إني لا أرى إلا أنكم جيفاً قامت على أشلاء وعلى أعقاب وعظام وجماجم الآخرين.. فلماذا إذاً هذا التباهي المصطنع؟!.. وهذا التكبر المتكلف؟!.. ولم هذه العظمة الزائلة؟!.. ولم هذا الغرور الفاني؟!..
اعتقد لأنه قد أصابكم نقص في العقل.. وغباء في الفهم.. وقصور في الإدراك.. وصغر في النفوس.. وإحساس عميق بانحطاط المنزلة.. فأنتم في قرارة نفوسكم.. تشعرون بنقصكم وتخلفكم.. وتريدون أن تجعلوا من كبريائكم وترفعكم.. ما يواري عوراتكم.. ويستر سوءاتكم.. ويداري من نقائصكم.. ولو أنصفتم أنفسكم.. لجملتموها بالتواضع.. وألبستموها حلل المتواضعين..
قل للذي بصروف الدهر عيرنا
هل حارب الدهر إلا من له خطر
أما ترى البحر تعلو فوقه جيف
ويستقر بأقصى قعره الدرر
فإن تكن نشبت أيدي الزمان بنا
ونالنا من تمادى بؤسه الضرر
ففي السماء نجوم ما لها عدد
وليس يكسف إلا الشمس والقمر
وكم على الأرض من خضر ويابسة
وليس يرجح غلا ما له ثمر
اعلموا أن الله سبحانه وتعالى.. بقدر ما يحب المتواضعين.. يبغض ويمقت المتكبرين.. فلا يزكيهم.. ولا ينظر إليهم يوم القيامة.. ولهم عذاب أليم.. عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :<< لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخرء بأنفه إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي الناس كلهم بنو آدم وآدم خلق من تراب >>(سنن الترمذي [3955] ج5 ص734)..
تاه الأعيرج واستغلى به الخطر
فقل له خير ما استعملته الحذر
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت
ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها
وعند صفو الليالي يحدث الكدر
يا أصحاب الدماء الزرقاء.. إني أرسل إليكم هذه القصة.. لعلها تلقى آذاناً صاغية.. أو قلوباً منشرحة.. أو عقولاً متفتحة.. بعد أن أعمى قلوبكم التفاخر.. وأصم آذانكم التعالي.. وأغشى على عقولكم التكبر والتباهي..
قال الأصمعي : بينما أنا أطوف بالبيت ذات ليلة.. إذ رأيت شاباً متعلقاً بأستار الكعبة.. وهو يقول :
يا من يجيب دعا المضطر في الظلم
يا كاشف الضر والبلوى مع السقم
قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا
وأنت يا حي يا قيوم لم تنم
أدعوك ربي حزيناً هائماً قلقاً
فارحم بكائي بحق البيت والحرم
إن كان جودك لا يرجوه ذو سفه
فمن يجود على العاصين بالكرم
ثم بكى بكاءاً شديداً وأنشد يقول :
ألا أيها المقصود في كل حاجة
شكوت إليك الضر فارحم شكايتي
ألا يا رجائي أنت تكشف كربتي
فهب لي ذنوبي كلها واقض حاجتي
أتيت بأعمال قباح رديئة
وما في الورى عبد جنى كجنايتي
أتحرقني بالنار يا غاية المنى
فأين رجائي ثم أين مخافتي
ثم سقط على الأرض مغشياً عليه.. فدنوت منه.. فإذا هو زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.. فرفعت رأسه في حجري.. وبكيت.. فقطرت دمعة على خده.. ففتح عينيه وقال : من هذا الذي يهجم علينا؟!.. قال الأصمعي : سيدي.. ما هذا البكاء والجزع؟!.. وأنت من أهل بيت النبوة.. ومعدن الرسالة.. أليس الله تعالى يقول : {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب: 33).. قال : هيهات هيهات يا أصمعي.. إن الله خلق الجنة لمن أطاعه.. ولو كان عبداً حبشياً.. وخلق النار لمن عصاه.. ولو كان حراً قرشياً.. أليس الله يقول : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (المؤمنون: 101ـ 103)..
دهر علا قدر الوضيع به
وترى الشريف يحطُّه شرفه
كالبحر يرسب فيه لؤلؤه
سفلا وتعلو فوقه جيفه
فيا أصحاب الدماء الزرقاء.. هل عرفتم هذه القاعدة التي أقرها ديننا الحنيف؟!.. أم هل قرأتم هذه الآيات من سورة المؤمنين؟!.. أتوقع لا.. لأنكم لو قرأتموها.. وتمعنتم في معانيها.. وعرفتموها حق المعرفة.. لاستحييتم من أنفسكم.. وتذكرتم أنه ليس هناك تفاضل بين البشر.. إلا بالتقوى والعمل الصالح..{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13)..
من أتقى الله فذاك الذي
سيق إليه المتجر الرابح
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الناس جميعاً.. من أصل واحد.. هو آدم وحواء.. ومن عنصر واحد.. هو الطين والماء.. فالناس في أصل الخليقة سواسية.. << كلكم لآدم وآدم خلق من تراب>>(سنن الترمذي [3955] ج5 ص734) ..
الناس من جهة التمثال أكفاء
أبوهم آدم والأم حواء
فإن يكن لهم في أصلهم شرف
يفاخرون به فالطين والماء
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهمو
على الهدى لمن استهدى أدلاء
وكما يعلم العقلاء.. أن الله سبحانه وتعالى.. قد جعل في الأرض أمماً وقبائل.. للتعارف والتناصر.. لا للتناكر والتفاخر.. وللتراحم والتعاون.. لا للتكبر والتظالم.. وقد قسم الله سبحانه وتعالى بينهم أرزاقهم.. ووضعهم في الدنيا مواضعهم.. طبق مشيئته وحكمته.. فغني وفقير.. وشقي وسعيد.. وقوي وضعيف.. وسقيم وصحيح.. وقد كرم الله تعالى من اتقاه.. وفضله على ما عداه.. فلا فضل لأبيض على أسود.. ولا فضل لعربي على أعجمي.. إلا بالتقوى.. فقد بين الله سبحانه وتعالى.. الخصلة التي يفضل بها الإنسان غيره.. ويكسب الشرف والكرم بسببها.. فقال عز من قائل :{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) .. فأكرم الناس عند الله أتقاهم.. لا وجيههم.. ولا أغناهم.. ولا أقواهم..
ما بال من أوله نطفة
وجيفة آخره يفخر
لا فخر إلا فخر أهل التقى
غداً إذا ضمهم المحشر
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :<< لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخواناً المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى ههنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه>> (صحيح مسلم [2564] ج4 ص1986).. فيوم القيامة.. لا ينفع أحدهم نسبه.. ولو كان من سلالة هاشمية.. إن لم يقترن بعمل صالح يؤجر عليه.. ولا يضرك نسبك وإن كنت من أمة حبشية..
لعمرك ما الإنسان إلا بدينه
فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب
فقد رفع الإسلام سلمان فارس
وقد وضع الشرك الشريف أبا لهب
يا أصحاب الدماء الزرقاء.. كان الأجدر بكم.. أن تتناسوا تلك القاعدة الجاهلية العفنة.. التي لا تسمن ولا تغني من جوع.. لتتذكروا أن ربكم واحد.. وإن أباكم واحد.. كلكم لآدم.. وآدم من تراب.. وإن أكرمكم عند الله أتقاكم.. ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى.. والعمل الصالح..
وما شرف الإنسان إلا بنفسه
وإن خصه جد شريف ووالد
إذا كان كل الخلق أبناء آدم
فأفضلهم من فضلته المحامد
حكي أن مطرف بن عبدالله بن الشخير نظر إلى المهلب بن أبي صفرة وعليه حلة يسحبها ويمشي الخيلاء.. فقال: يا أبا عبدالله ما هذه المشية التي يبغضها الله ورسوله؟
فقال المهلب : أما تعرفني ؟!
فقال : بل أعرفك!.. أوَّلك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وحشوك فيما بين ذلك بول وعذرة..
عجبت من معجب بصورته
وكان بالأمس نطفة مذرة
وفي غد بعد حسن صورته
يصير في اللحد جيفة قذرة
وهو على تيهه ونخوته
ما بين ثوبيه يحمل العذرة
وكتب عمر بن الخطاب إلى سعيد بن أبي وقاص حين ولاه حرب العراق: "لا يغرنَّك من الله أن قيل : خال رسول الله .. وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فإن الله عز وجل لا يمحو السيِّئ بالسيِّئ ولكنه يمحو السيِّئ بالحسن.. فإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا طاعته.. فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء.. الله ربهم.. وهم عباده.. يتفاضلون بالعافية.. ويدركون ما عنده بالطاعة.. فانظر الذي رأيت النبي صلى الله عليه وسلم منذ بعث إلى أن فارقنا فالزمه.. فإنه الأمر "..
تفوز بنا المنون وتستبد
ويأخذنا الزمان ولا يرد
وانظر ماضياً في أثر ماض
لقد أيقنت أن الأمر جد
رويداً بالفرار من المنايا
فليس يفوتها الساري المجد
فأين ملوكنا الماضون قدماً
أعدوا للنوائب واستعدوا
أعارهم الزمان نعيم عيش
فيا سرعان ما استلبوا وردوا
هم فرط لنا في كل يوم
نمدهم وإن لم يستمدوا
كلمات نورانية نبعت من رجل ذا رأي سديد.. وفكر حصيف.. وعقل كبير.. وقد أثنى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بما يدل على عظيم منزلته عنده.. وبلائه في الإسلام.. ومما ورد فيه قوله صلى الله عليه وسلم : << إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه>> ( صحيح ابن حبان [6889] ج15 ص312)..
نمدهم وإن لم يستمدوا
أولى به من نسبه
واعلموا أن العمل الذي تقومون به.. من التعالي والتفاخر على عباد الله.. يندرج تحت هذه الآية.. ولن تسلموا من العقاب.. لأنه يعتبر إيذاء للمؤمنين.. قال تعالى : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} (الأحزاب: 58)..
يا مظهر الكبر إعجاباً بصورته
أنظر خلاك فإن النتن تثريب
لو فكر الناس فيما في بطونهم
ما استشعر الكبر شبان ولا شيب
هل في ابن آدم مثل الرأس مكرمة
وهو بخمس من الأقذار مضروب
أنف يسيل وأذن ريحها سهك
والعين مرفضة والثغر ملعوب
يا ابن التراب ومأكول التراب غداً
أقصر فإنك مأكول ومشروب
وفي الختام :
يا ابن آدم لا تغرك عافية
عليك شاملة فالعمر معدود
ما أنت إلا كزرع عند خضرته
بكل شيء من الأوقات مقصود
فإن سلمت من الآفات اجمعها
فأنت عند كمال الأمر محصود

حدائق ذات أفنان ج1 ـ الرسائل : 3) (رسالة إلى كاتم الأسرار)

الرسالة الثالثة :
رسالة إلى كاتم الأسرار:

الحمد لله الكبير المتعال.. أمر بالاعتدال.. ونهانا عن الحيف والضلال.. القائل في كتابه العزيز.. حكاية عن نبي الله يعقوب عليه السلام.. عندما كان يوصي ابنه لما رأى رؤيا في المنام : { قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(يوسف: 5).. وأصلي وأسلم على إمام المسلمين.. وقائد الغر المحجلين.. نبينا ورسولنا الأمين..القائل:<< استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود>> (مجمع الزوائد ج8 ص195).. وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.. ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد..

ولي صاحب سرِّي المكتم عنده
محاريق نيران بليل تحرق
عطفت على أسراره فكسوتها
ثياباً من الكتَّان ما تتخرَّق
فمن تكن الأسرار تطفو بصدره
فأسرار نفسي بالأحاديث تغرق
فلا تودعنَّ الدهر سرك جاهلاً
فإنك إن أودعته منه أحمق
وحسبك في ستر الأحاديث واعظاً
من القول ما قال الأديب الموفق
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه
فصدر الذي يستودع السِّرَّ أضيق
يا أيها الإنسان.. الذي تاه في دنيا الخيال.. وعن الحق قد مال.. ومن المنكرات والمعاصي قد كال.. وعقله عن التفكير بالله قد جال.. ومن الأوزار الكثير قد شال.. ولسانه بالقبح قد سال.. ونسى أنه إلى زوال.. وأن الله يغير من حال إلى حال.. وأصبح يطلب من الدنيا المحال.. ولا هم عنده إلا تجميع الذهب والمال.. ولا فرق عنده بين الحرام والحلال.. ويعتقد أنه يبحث بذلك عن راحة البال.. وأنه بهذا سيصعد إلى مكان عال.. ولم يتوقع أنه سيكون عليه وبال.. وأن هناك يوم لا ينفع فيه بنون ولا مال.. وفيه من النكير وكثرة السؤال.. لا ينجو منها إلا من أتى الله سليم القلب وخالي البال.. أما من أتى الله بذنوب كالجبال.. فإنه يرميه في نار جهنم ولا يبالي.. هذه نصيحتي إليك على عجال.. من أخ في الله يخاف من يوم فيه الجنين قد هال.. وأملي أن لا ترميها في السلال.. لأنها لا تقدر بمال.. فاعلم هداك الله إلى خير حال.. أنه:
لا يكتم السر إلا كل ذي ثقة
والسر عند خيار الناس مكتوم
فالسر عندي في باب له غلق
ضاعت مفاتيحه والباب مختوم
لقد عجبت من إنسان.. يصبح مستودعاً لأسرار الآخرين.. فكل شخص.. لا يتحمل حمل سره.. ذهب إليه وأودعه سره.. وكل شخص.. أراد أن يخفف عن كاهله بعض الأثقال.. ويرمي من ظهره بعض الأحمال.. ركض إليه ورمى ما معه من حمل.. وكل شخص أعياه وأقض مضجعه.. ما اكتشف من أمر ألم به.. يمم وجهه شطر ذلك الإنسان العجيب.. حتى يغلق على تلك الهموم والأسرار مكنون بئره.. وسرداب عقله.. ويختم على شفتيه.. فلا يطلع عليها إنس ولا جان.. مهما أوتوا من قوة أو سلطان.. يردد مفتخراً..
وفتيان صدق لست أطلع بعضهم
على سرِّ بعض غير أني جماعها
يظلون في الأرض الفضاء وسرهم
إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها
لكل امرئ شعب من الأرض فارع
وموضع نجوى لا يرام اطلاعها
أيها الرجل العظيم.. إلى متى ستصبح مقبرة للأسرار العفنة.. والرؤى المستهلكة.. والأفكار المدمرة؟!!.. إلى متى ستكون مستودع للتناقضات.. والسموم الفتاكة.. والجراثيم المعدية؟!!.. إلى متى ستصبح حصالة للحمقى.. والمغفلين والجهلة.. يرمون فيها ما يشاؤون.. من مفاسد وضلالات.. تذيب الحياء.. وتقضي على المروءة.. وتقتل العفة.. وتمحق الفضيلة.. وتلغي الرجولة.. وتذيب الشهامة؟!!.. إلى متى ستصبح سلة مهملات.. تجمع كل ما تعفن وفسد.. وتحوي كل ما أهمل وانتهى.. ويرمي فيها كل من هب ودب.. قاذوراته وأوساخه؟!!.. لماذا تكون دائماً محل أنظار الفسقة.. وقبلة الفجرة.. ومحطة الجهلة.. واستراحة الحمقى.. ومخيم المنحطين؟!!.. لماذا تضع نفسك موضع التهمة.. وتوردها في مهالك الردى.. وتوقعها في مطبات المصائب والأهوال؟!!.. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :" من كتم سرَّه كان الخيار في يده ومن عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن"..
لا تفش سرك إلا إليك
فإن لكل نصيح نصوحا
فإني رأيت غواة الرجال
لا يتركون أديماً صحيحاً
أيها الرجل العظيم.. هل ستتحمل ما عجز عن تحمله غيرك؟!!.. أم هل ستصبر في ما لا طاقة لك فيه؟!!.. لماذا أرى إذن الذباب يحوم حول بيتك.. والبعوض مستلقِ في غرفتك؟!!.. ألا تخاف العدوى؟!!.. أم عندك مناعة؟!!.. ولكني أقول :
إذا المرء أفشى سره بلسانه
ولام عليه غيره فهو أحمق
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه
فصدر الذي يستودع السر أضيق

حدائق ذات أفنان ج1 ـ الرسائل : 2) (رسالة إلى من أحببت)

الرسالة الثانية:
رسالة إلى من أحببت :

الحمد لله الذي تتحير دون إدراك جلاله القلوب والخواطر.. وتدهش في مبادئ إشراق أنواره الأحداث والنواظر.. المطلع على خفيات السرائر.. العالم بمكنونات الضمائر.. مقلب القلوب.. وغافر الذنوب.. وساتر العيوب.. ومفرج الكروب.. ثم الصلاة والسلام على سيد المرسلين.. وخير الأنام أجمعين .. محمد بن عبدالله الأمين.. وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين.. أما بعد :
حاولت إخفاء الذي بجوانحي
فتخونني نار الهوى بملامحي
ويخونني شوقي وفرط تولُّهي
وشرود أفكاري وأوب نوائحي
ويخونني صمتي وهاجس مهجتي
وشحيح صبري واحتراق جواربي
ويخونني ترديد آهات الهوى
في ثغر أشعاري ونغم قرائحي
لم أستطع إلجام نفسي عن منى
تختال بين مشاعري ومسارحي
تحية طيبة مباركة من الأعماق.. مملؤة بالشوق والحب والإخلاص.. معطرة بشذا رياحين الجنان.. ومبعوثة عبر نسائم الصباح.. إلى من أحببت..
وكان فؤادي خالياً قبل حبكم
وكان بذكر الخلق يلهو ويمرح
فلما دعا قلبي هواك أجابه
فلست أراه عن فنائك يبرح
رميت منك إن كنت كاذباً
وإن كنت في الدنيا بغيرك أفرح
فإن شئت واصلني وإن شئت لا تصل
فلست أرى قلبي لغيرك يصلح
إلى من شغلت بالي وتفكيري.. وألهبت مشاعري وأحاسيسي.. وحركت سكوني ووجداني..
لقد دب الهوى لك في فؤادي
دبيب دم الحياة إلى العروق
فبعثتني إلى الحياة بعد الممات.. ومن اليأس إلى الأمل.. ومن القنوط إلى التفاؤل.. ومن الكآبة إلى السعادة.. ومن الخمول والكسل إلى الجد والنشاط.. ومن ظلمة المساء إلى إشراقة الصباح.. ومن جحيم الدنيا إلى جنة الآخرة.. ومن تعاسة الأخوة إلى حضن الأحبة..
وأُشرب قلبي ومشى بها
كمشي حميّا الكأس في عقل شارب
ودب هواها في عظامي وحبُّها
كما دبَّ في الملسوع سمُّ العقرب
إلى من طهرتني من أدران الدنيا وملذات الحياة.. وغسلت قلبي من الحقد والحسد والغل.. ونظفت عقلي من التخيلات والأوهام والأفكار الفاسدة .. وأزالت من كاهلي ثقل الهموم والأحزان.. وعوضتني بالعفة والطهر.. والقناعة والفكر.. والسعادة والسرور.. وأيقظت فيَّ روح العفو والتسامح والمغفرة..
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد
ذخراً يكون كصالح الأعمال
إلى من أمدتني بالقوة بعد الضعف.. والعز بعد الذل.. والتفاؤل بعد القنوط.. واليقظة بعد السبات.. والحب والحنان والشوق بدلاً من الكره والحقد والبغض والحسد..
لما عفوت ولم أحقد على أحد
أرحت نفسي من هَمِّ العداوات
إني أحيِّي عدوِّي عند رؤيته
لأدفع الشَّرَّ عنِّي بالتحيات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه
كما إن قد حشى قلبي مودات
إلى من علمتني أن الحياة جهاد وكفاح.. ونبل وكرم.. وعزة ووقار.. وتضحية وإثار.. وصبر ويقين..
إن الأمور إذا اشتدت مسالكها
فالصبر يفتح كل ما رتجا
لا تيأسن وإن طالت مطالبه
إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
إلى من علمتني أن الدنيا مثل البغي تُزين وتُجمل نفسها حتى تغري فريستها ولا يسلم منها إلا الشريف العفيف والورع التقي.. ونبهتني بأن الدنيا لا تكون للإنسان كما يريد وإنما فيها الفرح والسرور.. وفيها الحزن والألم.. وبها السار والضار.. والإيسار والإعسار.. وفيها الإخفاق والنجاح.. فيها الفوز والخسارة والنصر والهزيمة.. وفيها الخير والشر.. والصلاح والفساد.. ومن رضي بقضاء الله وقدره هانت عليه الصعاب.. وذكرتني أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.. فعلاما نتحارش ونتنـازع عليها ؟!!.. وعلمتني أن الدنيـا مزرعة وحصادها في الآخرة.. وذكرتني بأنها دار ممر والآخرة دار مقر..
حكم المنية في البرية جار
ما هذه الدنيا بدار قرار
إلى من أيقظت فيَّ روح التقوى والإيمان اللذين يعصماني من الوقوع في الفواحش والمحرمات والتمرغ بأوحالها..
خير أيام الفتى يوم نفع
واصطناع الخير أبقى ما صنع
ما ينال الخير بالشر ولا
يحصد الزارع إلا ما زرع
إلى من علمتني بأن شريعة الإسلام الخالدة إنما قد جاءت لأجل أن يعيش المرء قوياً أبياً.. وعزيزاً كريماً.. غير متلبس بشيء من القاذورات والأنجاس.. ولا منغمس في الأوحال والأوساخ.. والتي تحط من قدره.. وتنزله من مكانته السامقة.. وتضعه في منزلة الحيوانات والمخلوقات الوضيعة.. فلا يركع إلا للذي خلقه.. ولا يستجدي إلا من الذي رزقه.. ولا يخضع إلا للذي بيده الأمر والمنتهى..
فدع عنك فضلات الأمور فإنها
حرام على نفس التقي ارتكابها
ومن يحمد الدنيا لشيء يسره
فسوف لعمري عن قليل يلومها
إذا أدبرت كانت على المرء حسرة
وأن أقبلت كانت كثيراً همومها
إلى من علمتني بأن الدعوة طريق مفروش بالحجارة والأشواك.. وليس مفروشاً بالأزهار والورود.. ونصحتني بأنه على الداعية الصبر والجلد والتحمل.. والصدق في القول والعمل.. والصدر الرحب.. ويكون قدوة للناس في خلقه ومعاملته.. في مخبره ومظهره.. في قوله وفعله.. في عمله وسلوكه.. حتى يكون عمل الداعية تبعاً لما يدعو إليه.. ويجد بعد ذلك آذاناً صاغية لما يدعو إليه..
إن عبت يوماً على قوم بعاقبة
أمراً أتوه فلا تصنع كما صنعوا
إلى من علمتني أن الأخوة ليست كلمة فقط تقال.. أو رمزاً يرمز له.. أو شعاراً يوجه.. أو طريقة تتبع.. وليست من أجل مال أو منصب.. أو نسب أو سلطه.. إنما هي في ذات الله سبحانه وتعالى.. وما عداها فهي أخوة جوفاء لا طائل منها..
أخلاء الرخاء هم كثير
ولكن في البلاء هم قليل
فلا تغررك خلَّة من تؤاخي
فما لك عند نائبة خليل
وكلُّ أخ يقول أنا وفيٌّ
ولكن ليس يفعل ما يقول
سوى خلٍّ له حسب ودين
فذاك لما يقول هو الفعول
إلى من علمتني بأن الإنسان بلا حب كالجسد بلا روح.. أو كالغيمة بلا مطر.. أو كالسمكة بلا ماء..
لقد جرى الحبُّ مني
مجرى دمي في عروقي
إلى من أتمنى وصلها ولكن أبعدني عنها القدر؟!!.. وظلمني الأخ والصديق.. وقسا عليَّ الحبيب.. وهجرني الخليل.. وحاربني الأهل..
وعمَّا قليل ينتهي الأمر كلُّه
فما أول إلا ويتلوه آخر
وبرغم ذلك سوف أواجه الصعاب.. والجبال الراسية.. والرياح العاصفة.. والبحار الهائجة.. والقلوب المتحجرة.. والعقول القاسية المتصلبة.. والأعاصير العاتية.. والزلازل المدمرة.. والبراكين الثائرة..
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها
فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
وبرغم ذلك سأواجه سهام الحاسدين.. ورماح الحاقدين.. وسيوف النمامين.. ودروع المنافقين.. وشراك الكائدين.. وأسلحة الخائنين..
إن العرانين تلقاها محسدة
ولن ترى للئام الناس حساداً
وبرغم ذلك سأواجه الآراء الفاسدة.. والشبه الكاسدة.. والحيل الخبيثة.. وأوهام الضلالات.. وعلل المنافقين.. سأواجه بكل صبر وتحمل في سبيل عهدنا.. وسأورثهم الذل والحقارة والهوان..
إلى الطائر النجم انظري كلَّ ليلة
فإني إليه بالعشية ناظر
عسى يلتقي طرفي وطرفك عنده
فنشكو إليه ما تكن الضمائر


يا من أحببت.. إن كلماتك العظيمة أمدتني بالقوة والإصرار.. وبسماتك الوضاءة أمدتني بالأمل والإشراق.. وحياؤك الجليل أمدني بالتواضع والتفاؤل.. وقسمات وجهك البريئة أمدتني بالمحبة والعطف والحنان.. وإصرارك القوي أمدتني بالعزيمة والتحدي.. وتفاؤلك الصادق أمدني بالصدق والإخلاص.. ونظارة وجهك المشرق أمدني بالصبر والحكمة.. ومن حبي لك أحببت نفسي كل ما هو صلاح وكل الصالحين..
أحب الصالحين ولست منهم
لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي
ولو كنا سواء في البضاعة

في عصر التلون والتشكل.. عصر التغير والتحزب.. عصر الكلمات الرنانة الجوفاء.. عصر الأشكال البراقة الخداعة.. عصر التبجح والتفسخ من القيم والأخلاق.. عصر الأنانية وحب الذات.. عصر حب الظهور والتكبر والغرور.. عصر الماديات والملذات والشهوات.. عصر البقاء للأشرس والأظلم والقاسية قلوبهم.. عصر الأفاعي والحرباء.. عصر الميوعة والعري والتميع من القيم والأخلاق.. عصر الانحلال والضياع.. عصر المكائد والدسائس..
من لم يكن عنصره طيِّباً
لم يخرج الطَّيِّب من فيه
كلُّ امرئ يشبهه فعله
وينضح الكوز بما فيه

لقد تغيرت فيهم الفطرة.. وتميعت الأخلاق.. وانحلت القيم والمبادئ.. وتبدلت الأفكار.. وأصبحوا يأكلون لحم أخيهم حياً حتى قبل أن يكون ميتاً ؟!!..
وليس الذئب يأكل لحم ذئب
ويأكل بعضنا بعضاً عياناً
وأصبحت القلوب منتعشة بالحقد والحسد.. والعقول منتعشة بالبغضاء والغل.. والأفكار متشبعة بالإفساد والآراء والأفكار الهدامة.. والسلوكيات منحرفة عن الطريق القويم الذي خطه رسولنا الكريم.. وأصبح هؤلاء مثل البالون في الضخامة والحجم ولكنهم قد تقضي عليهم إبرة صغيرة!!.. والإنسان في ذلك العالم منحل من جميع القيم والأخلاق.. ويتقمص عدة شخصيات.. ويتنكر بعدة أزياء.. حتى لا ينكشف زيفه وبهتانه.. أو ينكشف سره وخداعه.. وقد ينخدع فيه الكثير.. وينساق إلي خزعبلاته العديد.. وينجر إلى أوهامه الكثير.. من محبي الظهور.. وعبدة الشهرة والزيف الكاذب.. ولكن ما هي الفائدة التي كانوا يرجونها؟!.. إنها العظمة وحب الظهور.. والتسلط والرياء والسمعة..
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله
وأجسادهم دون القبور قبور
وإن امرأ لم يحيى بالعلم قلبه
فليس له حتى النشور نشور

إي والله.. إنها لحالة يائسة.. حالة لا يطيقها من يرحم نفسه.. ولا يريدها من كان في رأسه مسكة من عقل.. فكيف يرضى فرد أن يعيش حالة الضيق والاضطراب؟!!.. فلا تهنأ نفسه.. ولا يستقر فؤاده.. ولا يهدأ باله.. ولا تنعم عينه.. ولا هو بمسرور في حياته وبين أهله وأصحابه.. وما ذلك إلا لأنه رضى حياة الذل والهون.. بابتعاده عن منهج الله.. وارتكابه ما حرم الله..
يا من يعانق دنيا لا بقاء لها
يمسي ويصبح في دنياه سفَّارا
هلا تركت لذي الدُّنيا معانقة
حتى تعانق في الفردوس أبكارا
إن كنت تبغي جنان الخلد تسكنها
فينبغي لك أن لا تأمن النَّارا

يا من أحببت.. أنت روحي وأملي وبدونك أصبحت حياتي كحياة طفل بلا أم.. أو جسداً بلا روح.. أو سفينة بلا قبطان.. أو وطناً بلا قائد.. أو جيشاً بلا سلاح.. أو وردة بلا رائحة .
هل أنت شافية قلباً يهيم بكم
لم يلق عروة من عفراء ما وجدا
ما في فؤادي من داء يخامره
إلا التي لو رآها راهب سجدا

يا من أحببت.. عندما يتردد في مخيلتي صدى صوتك.. أو تتحسس إذني نسمات نفسك.. تثور أشجاني.. فتمدني بالقوة والأمل بعد الضعف واليأس.. والسعادة والفرح بعد الكآبة والحزن.. والتفاؤل والفرج بعد التشاؤم والضيق.. من إثر تقلبات المجتمع.. وحقد العدو.. وبغض الخلان.. وكره الحساد.. ومكائد الأخ.. ونكران الصديق.. وهجران الأهل..
فيا عجباً يستشرفونني
كأن لم يروا بعدي محباً ولا قبلي
ويا عجباً من حب من هو قاتلي
كأني أجزيه المودة من قتلي

فلولا نسماتك في الوجود.. لكنت الآن في عالم العزلة والتشتت.. عالم الوحدة والأحزان.. عالم التيه والضياع.. لأنه ما باستطاعتي أن أقارع وحيداً ذلك الطوفان الجارف.. أو ذلك الإعصار المدمر..
يقولون لي إن بحت قد غرَّك الهوى
وإن لم أبح بالحب قالوا تصبرا
فما لإمرئ يهوى ويكتم أمره
من الحب إلا أن يموت فيعذرا

يا من أحببت.. لقد كنت أقرأ وأسمع عن قصص المحبين.. وحكايات العاشقين أمثال قيس وليلى.. وكثير وعزة.. وجميل وبثينة وغيرهم.. وكنت أعتقد إنها ضرب من ضروب الخيال.. أو نوع من أنواع الكذب المبتذل.. بقصد الربح السريع.. حتى يتلذذ بها الحمقى والمغفلون..ولكن..
لا تعذل المشتاق في أشواقه
حتى يكون حشاك في أحشائه
إن القتيل مضرًّجاً بدموعه
مثل القتيل مضرجاً بدمائه

أما الآن فقد آمنت بما قيل.. وصدقت كل ما كتب.. بعدما عانيت مثل ما عانوا.. وكابدت مثل ما كابدوا.. فالإنسان لا يعرف معنى وقداسة الحب.. إلا إذا عايشه.. واكتوى بناره.. فالحب هو إكسير الحياة.. وهو منبع الرحمة.. ومنبت الفضيلة..
يا لائمي كفَّ الملام عن الذي
أخفاه طول سقامه وشقائه
إن كنت ناصحه فداو سقامه
وأعنه ملتمساً لأمر شفائه
حتى يقال بأنك الخلُّ الذي
يرجى لشدة دهره ورخائه
أو لا فدعه فما به يكفيه من
طول الملام فلست من نصحائه
نفسي الفداء لمن عصيت عواذلي
في حبِّه لم أخش من رقبائه
الشمس تطلع عن أسرة وجهه
والبدر يطلع من خلال قبائه

والمرء إذا أحب ألغى من قاموسه الكره والبغض والحسد.. وأصبح قلبه مثل الثوب الأبيض.. فيعفو عمن ظلمه.. ويغفر لمن أساء إليه.. ويسامح من شتمه أو حقره.. ويصالح من خاصمه.. ويعطي من منعه.. ويبر من هجره.. ويقبل من الناس ما تيسر منهم.. ويشكر محسنهم.. ويعفو عن مسيئهم.. فيعيش قرير العين.. مطمئن النفس.. هادئ البال.. صبوراً على المعارضة.. سهل العريكة.. لين الجانب..
يا لائمي في الهوى العذري معذرة
مني إليك ولو أنصفت لم تلم

يا من أحببت.. إنك أضأت ظلمات حياتي.. وكشفتِ أسرار مكنونات صدري.. وجددتِ لي أحاسيسي ومشاعري.. واقتحمتِ أبواب قلبي المؤصدة.. وهتكت حبائـل فكري.. وأزحتِ غشاوة عقلي.. ومزقتِ ستائر ليلي وسكوني.. فأسرتِ قلبي وعقلي..
إذا وجدت أوار الحب في كبدي
ذهبت نحو سقاء الماء أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهرة
فمن لنار على الأحشاء تتقد

لقد أبصرت الهدى بعد العمى.. فبنورك اهتديت إلى الحياة.. وبقلبك الطاهر واجهت الصعاب والتحديات.. وبروحك النقية تصديت لجميع المشكلات والمعضلات.. بكل صبر وتحمل..
إني أحبُّك حباً ليس يبلغه
فهم ولا ينتهي وصفي إلى صفته
أقصى نهاية علمي فيه معرفتي
بالعجز مني عن إدراك معرفته

يا من أحببت.. لكن وبسبب طول الفراق.. وبعد المسافة بيننا.. وجور الإخوة في حياتنا.. وكثرة القيل والقال.. فإني يعتريني همان.. فيعتصران قلبي.. ويمزقان فؤادي.. ويشتتان فكري.. ويسلبان عقلي.. هَمُّ بُعدِ الفراق.. وهمَّ إصلاح هذا المجتمع.. وكلما أردت أن أزيح أحدهما عن قلبي وعقلي وتفكيري.. تكاد روحي تخرج معه فأدعه على ما هو عليه.. فيعود كما كان بل أشد وأعنف.. وقد قال لي أحدهم :
كتمت الهوى حتى أضرَّ بك الكتم
ولامك أقوام ولومهم ظلم
ونمَّ عليك الكاشحون وقبلهم
عليك الهوى قد نمَّ لو نفع النَّمُّ
وزادك إغراء بها طول بخلها
عليك وابلى لحم أعظمك الهم
فأصبحت كالنهدي إذ مات حسرة
على إثر هند أو كمن سقي السمُّ
ألا من لنفس لا تموت فينقضي
شقاها ولا تحيا حياة لها طعم
تجنبت إتيان الحبيب تأثماً
ألا إن هجران الحبيب هو الإثم
فذق هجرها قد كنت تزعم أنه
رشاد ألا يا ربما كذب الزَّعم

ولهذا ضعف الجسم.. وتشتت الفكر.. وخارت الإرادة.. وفتر العزم.. وأصبحت أمشي في الطرقات.. كجسد بلا إحساس أو عقل.. فإذا جاشت خواطري بخيالك.. هدأت نفسي.. وعاد إحساسي وعقلي..
بنفسي من غداة نايت عنهم
تركت القلب عندهم رهينا
أما لك أيها القلب اعتبار
بما فعل الهوى بالعاشقينا

وعندما يختفي خيالك عن مخيلتي عدت إلى ما كنت عليه.. فيا ترى إلى متى يستمر هذا الحال ؟!!.. وهل هناك من مخرج أو سبيل؟!!
هل إلى أن تنام عيني سبيل
إن عهدي بالنوم عهد طويل
غاب عني من لا أسمي فعيني
كلَّ يوم وجداً عليه تسيل
إنَّ ما قلَّ منك يكثر عندي
وكثير ممَّن تحبُّ القليل


يا من أحببت.. إني أحس الآن وأنت بعيدة عني كإحساس بريء وضع في سجن.. أو طائر وضع في قفص.. ينشدان الحرية التي قد تكون بعيدة المنال.. فأنت حياتي وحريتي.. ونعيمي وسعادتي..
لو حزَّ بالسيف رأسي في مودتها
لمرَّ يهوي سريعاً نحوها رأسي
ولو بلي تحت أطباق الثرى جسدي
لكنت أبلى وما قلبي لكم ناسي
لولا نسيم لذكراكم يروحني
لكنت محترقاً من حر أنفاسي
يا من أحببت.. أنت لي كالماء والهواء في هذا الكون.. فلا حياة بدونك.. ولا عيشة بفقدك..
من أجل هواكم عشقت العشقا
قلبي كلف ودمعتي ما ترقا
في حبكم يهون ما قد ألقى
ما يحصل بالنعيم من لا يشقى
فالحياة بدون مؤنس أو حبيب.. كطعام بلا ملح.. و أرض بلا نبتة أو ماء.. أو سماء بلا نجم أو شمس أو قمر.. أو إنسان قد فقد جميع حواسه وعقله.. ويعيش مثل الحيوان في هذه الحياة.
أحبك يا شمس الزمان وبدره
وإن لامني فيك السهى والفرقد
يا من أحببت.. كل قطرة دم.. شاهدة على صدق حبي لك.. وكل نبضة قلب.. شاهدة على آلامي وأحزاني بفقدك وبعد الفراق.. وكل نسمة طيف.. تذكرني بك.. وكل صرخة ألم.. تشتكي إلى الله جور الزمن.. وكل دمعـة حـزن.. تدعـو الله كي يلـم الشمـل ويجمع المحبين.. إني مجروح وأنت البلسم الشافي .
فررت من اللقاء إلى الفراق
فحسبي ما لقيت وما ألاقي
سقاني البين كأس الموت صرفاً
وما ظني أموت بكف ساقي
فيا برد اللقاء على فؤادي
أجرني اليوم من حر الفراق
فيا أهل الرحمة والعطف.. إني أتعذب.. وعذاب القلب.. أشد وأعظم من عذاب الجسد.. فعذاب الجسد يبرأ.. أما عذاب القلب فلا يبرأ.. إلا باجتماع المحبين.. فهل إلى ذلك من سبيل؟!! وهل هنالك من طريقة؟!!..
هل إلى نظرة إليك سبيل
يرو منها الصَّدى ويشف الغليل
إنَّ ما قلَّ منك يكثر عندي
وكثير ممَّن تحبُّ القليل
يا من أحببت.. أنت دائي ودوائي.. ومرضي وشفائي.. وعافيتي وسقمي.. وناري وجنتي.. وفرحي وحزني.. وكلما ألم بي ألم أو حزن.. أو اعتراني غضب أو هم.. أو اعترضتني مشكلة أو محنة.. أو جاءني السهاد والقلق فيهجرني النوم.. ثم ألم طيفك بخاطري.. انجلى كل ما كنت أعانيه.. وعدت صحيح الجسم.. معافى البال.. ولكن هل يستمر هذا الحال؟!!.
أستودع الله قلباً من فجعت به
وبالأحبة لم أسكن إلى سكن
قد كان يحمل من همي ومن حزني
ما ليس يحمله روحي ولا بدني
لا عدت إن عاد لي قلبي أعذبه
بالحسن كم من قبيح جاء من حسن
يا من أحببت.. هل يا ترى يهدأ القلب بعد الهيجان؟!!.. أم هل تسكن الروح بعد الثوران؟!!.. أم هل تخمد الأحاسيس بعد الاشتعال؟!!.. أم هل يصمد الجسم أمام عدوه الهزال.. ويقارع الأمراض والأسقام؟!.. أم هل تطمئن النفس بعد الفراق؟!!.. أم هل يتحد التركيز والتفكير بعد التيه والضياع؟!!.. وهل بعد الشدة من فرج؟!!.. وهل بعد اليأس والقنوط من استبشار وتفاؤل؟!!.. وهل بعد الظلم والجور من عدل وبر؟!!.. وهل بعد الإساءة من إحسان؟!.. وهل تعود الراحة والطمأنينة بعد البعد والفراق؟!!.. وهل يعود النوم بعد التشتت والهجران؟!!.. وهل تعود الصحة بعد السقم؟!.. وهل يعود الفرح والسرور بعد الضيق والحزن؟!.. وهل تعود السعادة بعد الكآبة؟!.. وهل يعود الأمل بعد اليأس؟!.. وهل تعود القوة بعد الضعف؟!.. وهل تعود الحياة بعد الموت؟!.. وهل يعود الحب بعد الكراهية؟!.. وهل هنالك لقاء بعد الفراق؟!.. وهل تعود العافية بعد المرض؟!.. وهل تعود الابتسامة بعد البكاء؟!.. وهل؟!.. وهل؟!.. وهل؟!.. فهل يا ترى؟!.. وإلى متى؟!...
يقول أناس لو وصفت لنا الهوى
لعلَّ الذي لا يعرف الحب يعرف
فقلت لقد ذقت الهوى ثم ذقته
فو الله ما أدري الهوى كيف يوصف
فيا زهرة حياتي.. وربيع عمري.. ومصباح دجى ليلي.. هذه تساؤلات عقلي.. واستفسارات الضمير الحي.. وقد لج بالسؤال.. وقد أجاب قلبي المثخن بالآلام والأحزان..والمكتوي بنهار البعد والفراق.. نعم يعود كل شي إلى حاله وطبيعته.. حين يتلاقى المحبان.. فتنقشع غمائم الآلام والأحزان.. وتأتي سـحائب المحبـة.. ويسقـط رذاذ الوئـام.. فتغتسل القلوب والضمائر بالتآلف.. وتنتعش الروح.. فتهب نسائم الوجد.. فتطرد رياح الحقد والبغض والكراهية والحسد.. وتعيد الصفاء والسرور في جميع أرجاء المكان.. وتنهمر عبارات الشوق.. فتحل السكينة والوقار.. وتعيد نور الحياة بعد موت الظلمة.. وانتصار الحق.. وعودة الأمل.. فيحل الأمن والطمأنينة.. ويندحر كيد الحساد والحاقدين.. فتحيا قلوب المحبين.. بإشراقة شمس الصباح.. ونشوة النصر.. وعودة السلام.. بسبب الصبر والكفاح.. وعدم اليأس..
اصبر على الدهر إن أصبحت منغمساً
بالضيق في لجج تهوي إلى لجج
فإن تضايق باب عنك مرتتج
فاطلب لنفسك باباً غير مرتتج
لا تيأسنَّ إذا ما ضقت من فرج
يأتي به الله في الرَّوحات والدُّلج
فما تجرَّع كأس الصبر معتصم
بالله إلا أتاه الله بالفرج
فاعذريني يا من أحببت.. على هذه الكلمات المتواضعة.. والتي جاشت بها نفسي وأحاسيسي.. فعبر عنها قلمي.. بمداد دمي.. والتي لا تدل إلا على جزء يسير مما أعانيه.. من آلام وأحزان.. وفراق وهجران..
يا حادي العيس اصخ لمدنف
متيم لج به الغرام
إذا وقفت في ثنيات اللوى
ولا الديار والخيام
وافترت الرياض عن أزهارها
عقيب ما قد رحل الغمام
وهبت الريح فهب شيحها
وانتبه الحوذان والثمام
فقف قليلاً نتزود نظرة
تحيا بها الأرواح والسلام
وقد خانني في كثير من الأمور التعبير عما أعانيه.. فإن لاقت قبولاً منكم.. فإنها مرسلة من قلب جريح إلى قلب عطوف رحيم.. ومن جسم سقيم من أثر الهموم والأحزان إلى من نرجو عنده الشفاء..
يقول أناس لو نعت لنا الهوى
ووالله ما أدري لهم كيف أنعت
سقام على جسمي كثير موسَّع
ونوم على عيني قليل مفوَّت
إذا أشتدَّ ما بي كان أفضل حيلتي
له وضع كفي فوق خدي وأسكت
ومن إنسان مظلوم إلى قاضٍ يستطيع أن يمايز بين الحق والباطل.. وبين الهدى والضلال.. وبين النور والظلمة.. وبين زخرف القول من جيده.. وبين الأقاويل الفاسدة.. والحجج والبراهين الكاسدة.. فلا تنطوي عليه حيل وألاعيب الحاقدين .. ولا أقوال النمامين.. ولا كلام المشككين.. ولا أساليب المنافقين.. ولا خبث الحاسدين.. ولا مكر الماكرين.. ودهاء أبناء الشياطين.. وارحموا عزيز قوم ذل..
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم
وتذنبون فنأتيكم فنعتذر
شكوت ما بي إلى ... فما اكترثت
ما قلبها؟ أحديد أنت أم حجر؟!
لا تحسبيني غنياً عن مودتكم
فلي إليك وإن أيسرت مفتقر
وإلا فاعتبريها.. قد صدرت من هذيان رجل قد شارف على الموت والهلاك؟!!.. أو اعتراه عارض من الجنون ؟!!.. أو مس من الجن ؟!!..
قالت جننت على ذكري فقلت لها
الحبُّ أعظم مما بالمجانين
الحب ليس يفيق الدهر صاحبه
وإنما يبرء المجنون في الحين
أو أعتبريها قد أخطأت الرسالة العنوان.. فارجوا العفو والمغفرة.. إذا كنت قد سببت بهذه الكلمات المتناثرة.. أي إزعاج أو ألم.. أو ضيق أو حزن.. والمسامح كريم..
كتبت كتابي ما أقيم حروفه
لشدة إعوالي وطول نحيبي
أخطُّ وأمحو ما خططت بعبرة
تسح على القرطاس سحَّ غروب
سأحفظ ما قد كان بيني وبينكم
وأدعوكم في مشدي ومغيبي
وإني لأستهدي الرياح سلامكم
إذا أقبلت من نحوكم بهبوب
يا من أحببت..
أتهجرون فتى أغري بكم تيهاً
حقاً لدعوة صبٍّ أن يجيبوها
أهدى إليكم على نأي تحيته
حيوا بأحسن منها أو فردُّها
يا من أحببت.. وفي الختام أدعو الله الكريم الرحيم.. أن يفرج كربنا.. ويستر ما انطوت عليه قلوبنا.. وأن يلهمنا الصبر على الفراق.. وأن يرحمنا من عذاب الشوق والحرمان.. ويغفر لنا ما تنطوي عليه أنفسنا من شوق وحب.. إنه هو الغفور الرحيم.. وإنه هو البر الكريم.. ربي اغفر ورحم.. وأنت خير الراحمين..
إلهي لا تعذبني فإني
مقر بالذي قد كان مني
ومالي حيلة إلا رجائي
وبعفوك إن عفوت وحسن ظني
فكم من زلة لي في البرايا
وأنت عليَّ ذو فضل ومنٍ
إذا فكرت في قدمي عليها
عضضت أناملي وفرعت سني
يظن الناس بي خيراً وإني
لشر الناس إن لم تعف عني
أُجن بزهرة الدنيا جنونا
وأفني العمر فيها بالتمني
وبين يدي محتبس ثقيل
كأني قد دعيت له كأني
ولو إني صدقت الزهد فيها
قلبت لأهلها ظهر المجنِّ
( تمت الرسالة)