الخميس، 17 سبتمبر 2009

حدائق ذات أفنان ج1 ـ الرسائل : 3) (رسالة إلى كاتم الأسرار)

الرسالة الثالثة :
رسالة إلى كاتم الأسرار:

الحمد لله الكبير المتعال.. أمر بالاعتدال.. ونهانا عن الحيف والضلال.. القائل في كتابه العزيز.. حكاية عن نبي الله يعقوب عليه السلام.. عندما كان يوصي ابنه لما رأى رؤيا في المنام : { قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(يوسف: 5).. وأصلي وأسلم على إمام المسلمين.. وقائد الغر المحجلين.. نبينا ورسولنا الأمين..القائل:<< استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود>> (مجمع الزوائد ج8 ص195).. وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.. ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد..

ولي صاحب سرِّي المكتم عنده
محاريق نيران بليل تحرق
عطفت على أسراره فكسوتها
ثياباً من الكتَّان ما تتخرَّق
فمن تكن الأسرار تطفو بصدره
فأسرار نفسي بالأحاديث تغرق
فلا تودعنَّ الدهر سرك جاهلاً
فإنك إن أودعته منه أحمق
وحسبك في ستر الأحاديث واعظاً
من القول ما قال الأديب الموفق
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه
فصدر الذي يستودع السِّرَّ أضيق
يا أيها الإنسان.. الذي تاه في دنيا الخيال.. وعن الحق قد مال.. ومن المنكرات والمعاصي قد كال.. وعقله عن التفكير بالله قد جال.. ومن الأوزار الكثير قد شال.. ولسانه بالقبح قد سال.. ونسى أنه إلى زوال.. وأن الله يغير من حال إلى حال.. وأصبح يطلب من الدنيا المحال.. ولا هم عنده إلا تجميع الذهب والمال.. ولا فرق عنده بين الحرام والحلال.. ويعتقد أنه يبحث بذلك عن راحة البال.. وأنه بهذا سيصعد إلى مكان عال.. ولم يتوقع أنه سيكون عليه وبال.. وأن هناك يوم لا ينفع فيه بنون ولا مال.. وفيه من النكير وكثرة السؤال.. لا ينجو منها إلا من أتى الله سليم القلب وخالي البال.. أما من أتى الله بذنوب كالجبال.. فإنه يرميه في نار جهنم ولا يبالي.. هذه نصيحتي إليك على عجال.. من أخ في الله يخاف من يوم فيه الجنين قد هال.. وأملي أن لا ترميها في السلال.. لأنها لا تقدر بمال.. فاعلم هداك الله إلى خير حال.. أنه:
لا يكتم السر إلا كل ذي ثقة
والسر عند خيار الناس مكتوم
فالسر عندي في باب له غلق
ضاعت مفاتيحه والباب مختوم
لقد عجبت من إنسان.. يصبح مستودعاً لأسرار الآخرين.. فكل شخص.. لا يتحمل حمل سره.. ذهب إليه وأودعه سره.. وكل شخص.. أراد أن يخفف عن كاهله بعض الأثقال.. ويرمي من ظهره بعض الأحمال.. ركض إليه ورمى ما معه من حمل.. وكل شخص أعياه وأقض مضجعه.. ما اكتشف من أمر ألم به.. يمم وجهه شطر ذلك الإنسان العجيب.. حتى يغلق على تلك الهموم والأسرار مكنون بئره.. وسرداب عقله.. ويختم على شفتيه.. فلا يطلع عليها إنس ولا جان.. مهما أوتوا من قوة أو سلطان.. يردد مفتخراً..
وفتيان صدق لست أطلع بعضهم
على سرِّ بعض غير أني جماعها
يظلون في الأرض الفضاء وسرهم
إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها
لكل امرئ شعب من الأرض فارع
وموضع نجوى لا يرام اطلاعها
أيها الرجل العظيم.. إلى متى ستصبح مقبرة للأسرار العفنة.. والرؤى المستهلكة.. والأفكار المدمرة؟!!.. إلى متى ستكون مستودع للتناقضات.. والسموم الفتاكة.. والجراثيم المعدية؟!!.. إلى متى ستصبح حصالة للحمقى.. والمغفلين والجهلة.. يرمون فيها ما يشاؤون.. من مفاسد وضلالات.. تذيب الحياء.. وتقضي على المروءة.. وتقتل العفة.. وتمحق الفضيلة.. وتلغي الرجولة.. وتذيب الشهامة؟!!.. إلى متى ستصبح سلة مهملات.. تجمع كل ما تعفن وفسد.. وتحوي كل ما أهمل وانتهى.. ويرمي فيها كل من هب ودب.. قاذوراته وأوساخه؟!!.. لماذا تكون دائماً محل أنظار الفسقة.. وقبلة الفجرة.. ومحطة الجهلة.. واستراحة الحمقى.. ومخيم المنحطين؟!!.. لماذا تضع نفسك موضع التهمة.. وتوردها في مهالك الردى.. وتوقعها في مطبات المصائب والأهوال؟!!.. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :" من كتم سرَّه كان الخيار في يده ومن عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن"..
لا تفش سرك إلا إليك
فإن لكل نصيح نصوحا
فإني رأيت غواة الرجال
لا يتركون أديماً صحيحاً
أيها الرجل العظيم.. هل ستتحمل ما عجز عن تحمله غيرك؟!!.. أم هل ستصبر في ما لا طاقة لك فيه؟!!.. لماذا أرى إذن الذباب يحوم حول بيتك.. والبعوض مستلقِ في غرفتك؟!!.. ألا تخاف العدوى؟!!.. أم عندك مناعة؟!!.. ولكني أقول :
إذا المرء أفشى سره بلسانه
ولام عليه غيره فهو أحمق
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه
فصدر الذي يستودع السر أضيق

حدائق ذات أفنان ج1 ـ الرسائل : 2) (رسالة إلى من أحببت)

الرسالة الثانية:
رسالة إلى من أحببت :

الحمد لله الذي تتحير دون إدراك جلاله القلوب والخواطر.. وتدهش في مبادئ إشراق أنواره الأحداث والنواظر.. المطلع على خفيات السرائر.. العالم بمكنونات الضمائر.. مقلب القلوب.. وغافر الذنوب.. وساتر العيوب.. ومفرج الكروب.. ثم الصلاة والسلام على سيد المرسلين.. وخير الأنام أجمعين .. محمد بن عبدالله الأمين.. وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين.. أما بعد :
حاولت إخفاء الذي بجوانحي
فتخونني نار الهوى بملامحي
ويخونني شوقي وفرط تولُّهي
وشرود أفكاري وأوب نوائحي
ويخونني صمتي وهاجس مهجتي
وشحيح صبري واحتراق جواربي
ويخونني ترديد آهات الهوى
في ثغر أشعاري ونغم قرائحي
لم أستطع إلجام نفسي عن منى
تختال بين مشاعري ومسارحي
تحية طيبة مباركة من الأعماق.. مملؤة بالشوق والحب والإخلاص.. معطرة بشذا رياحين الجنان.. ومبعوثة عبر نسائم الصباح.. إلى من أحببت..
وكان فؤادي خالياً قبل حبكم
وكان بذكر الخلق يلهو ويمرح
فلما دعا قلبي هواك أجابه
فلست أراه عن فنائك يبرح
رميت منك إن كنت كاذباً
وإن كنت في الدنيا بغيرك أفرح
فإن شئت واصلني وإن شئت لا تصل
فلست أرى قلبي لغيرك يصلح
إلى من شغلت بالي وتفكيري.. وألهبت مشاعري وأحاسيسي.. وحركت سكوني ووجداني..
لقد دب الهوى لك في فؤادي
دبيب دم الحياة إلى العروق
فبعثتني إلى الحياة بعد الممات.. ومن اليأس إلى الأمل.. ومن القنوط إلى التفاؤل.. ومن الكآبة إلى السعادة.. ومن الخمول والكسل إلى الجد والنشاط.. ومن ظلمة المساء إلى إشراقة الصباح.. ومن جحيم الدنيا إلى جنة الآخرة.. ومن تعاسة الأخوة إلى حضن الأحبة..
وأُشرب قلبي ومشى بها
كمشي حميّا الكأس في عقل شارب
ودب هواها في عظامي وحبُّها
كما دبَّ في الملسوع سمُّ العقرب
إلى من طهرتني من أدران الدنيا وملذات الحياة.. وغسلت قلبي من الحقد والحسد والغل.. ونظفت عقلي من التخيلات والأوهام والأفكار الفاسدة .. وأزالت من كاهلي ثقل الهموم والأحزان.. وعوضتني بالعفة والطهر.. والقناعة والفكر.. والسعادة والسرور.. وأيقظت فيَّ روح العفو والتسامح والمغفرة..
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد
ذخراً يكون كصالح الأعمال
إلى من أمدتني بالقوة بعد الضعف.. والعز بعد الذل.. والتفاؤل بعد القنوط.. واليقظة بعد السبات.. والحب والحنان والشوق بدلاً من الكره والحقد والبغض والحسد..
لما عفوت ولم أحقد على أحد
أرحت نفسي من هَمِّ العداوات
إني أحيِّي عدوِّي عند رؤيته
لأدفع الشَّرَّ عنِّي بالتحيات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه
كما إن قد حشى قلبي مودات
إلى من علمتني أن الحياة جهاد وكفاح.. ونبل وكرم.. وعزة ووقار.. وتضحية وإثار.. وصبر ويقين..
إن الأمور إذا اشتدت مسالكها
فالصبر يفتح كل ما رتجا
لا تيأسن وإن طالت مطالبه
إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
إلى من علمتني أن الدنيا مثل البغي تُزين وتُجمل نفسها حتى تغري فريستها ولا يسلم منها إلا الشريف العفيف والورع التقي.. ونبهتني بأن الدنيا لا تكون للإنسان كما يريد وإنما فيها الفرح والسرور.. وفيها الحزن والألم.. وبها السار والضار.. والإيسار والإعسار.. وفيها الإخفاق والنجاح.. فيها الفوز والخسارة والنصر والهزيمة.. وفيها الخير والشر.. والصلاح والفساد.. ومن رضي بقضاء الله وقدره هانت عليه الصعاب.. وذكرتني أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.. فعلاما نتحارش ونتنـازع عليها ؟!!.. وعلمتني أن الدنيـا مزرعة وحصادها في الآخرة.. وذكرتني بأنها دار ممر والآخرة دار مقر..
حكم المنية في البرية جار
ما هذه الدنيا بدار قرار
إلى من أيقظت فيَّ روح التقوى والإيمان اللذين يعصماني من الوقوع في الفواحش والمحرمات والتمرغ بأوحالها..
خير أيام الفتى يوم نفع
واصطناع الخير أبقى ما صنع
ما ينال الخير بالشر ولا
يحصد الزارع إلا ما زرع
إلى من علمتني بأن شريعة الإسلام الخالدة إنما قد جاءت لأجل أن يعيش المرء قوياً أبياً.. وعزيزاً كريماً.. غير متلبس بشيء من القاذورات والأنجاس.. ولا منغمس في الأوحال والأوساخ.. والتي تحط من قدره.. وتنزله من مكانته السامقة.. وتضعه في منزلة الحيوانات والمخلوقات الوضيعة.. فلا يركع إلا للذي خلقه.. ولا يستجدي إلا من الذي رزقه.. ولا يخضع إلا للذي بيده الأمر والمنتهى..
فدع عنك فضلات الأمور فإنها
حرام على نفس التقي ارتكابها
ومن يحمد الدنيا لشيء يسره
فسوف لعمري عن قليل يلومها
إذا أدبرت كانت على المرء حسرة
وأن أقبلت كانت كثيراً همومها
إلى من علمتني بأن الدعوة طريق مفروش بالحجارة والأشواك.. وليس مفروشاً بالأزهار والورود.. ونصحتني بأنه على الداعية الصبر والجلد والتحمل.. والصدق في القول والعمل.. والصدر الرحب.. ويكون قدوة للناس في خلقه ومعاملته.. في مخبره ومظهره.. في قوله وفعله.. في عمله وسلوكه.. حتى يكون عمل الداعية تبعاً لما يدعو إليه.. ويجد بعد ذلك آذاناً صاغية لما يدعو إليه..
إن عبت يوماً على قوم بعاقبة
أمراً أتوه فلا تصنع كما صنعوا
إلى من علمتني أن الأخوة ليست كلمة فقط تقال.. أو رمزاً يرمز له.. أو شعاراً يوجه.. أو طريقة تتبع.. وليست من أجل مال أو منصب.. أو نسب أو سلطه.. إنما هي في ذات الله سبحانه وتعالى.. وما عداها فهي أخوة جوفاء لا طائل منها..
أخلاء الرخاء هم كثير
ولكن في البلاء هم قليل
فلا تغررك خلَّة من تؤاخي
فما لك عند نائبة خليل
وكلُّ أخ يقول أنا وفيٌّ
ولكن ليس يفعل ما يقول
سوى خلٍّ له حسب ودين
فذاك لما يقول هو الفعول
إلى من علمتني بأن الإنسان بلا حب كالجسد بلا روح.. أو كالغيمة بلا مطر.. أو كالسمكة بلا ماء..
لقد جرى الحبُّ مني
مجرى دمي في عروقي
إلى من أتمنى وصلها ولكن أبعدني عنها القدر؟!!.. وظلمني الأخ والصديق.. وقسا عليَّ الحبيب.. وهجرني الخليل.. وحاربني الأهل..
وعمَّا قليل ينتهي الأمر كلُّه
فما أول إلا ويتلوه آخر
وبرغم ذلك سوف أواجه الصعاب.. والجبال الراسية.. والرياح العاصفة.. والبحار الهائجة.. والقلوب المتحجرة.. والعقول القاسية المتصلبة.. والأعاصير العاتية.. والزلازل المدمرة.. والبراكين الثائرة..
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها
فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
وبرغم ذلك سأواجه سهام الحاسدين.. ورماح الحاقدين.. وسيوف النمامين.. ودروع المنافقين.. وشراك الكائدين.. وأسلحة الخائنين..
إن العرانين تلقاها محسدة
ولن ترى للئام الناس حساداً
وبرغم ذلك سأواجه الآراء الفاسدة.. والشبه الكاسدة.. والحيل الخبيثة.. وأوهام الضلالات.. وعلل المنافقين.. سأواجه بكل صبر وتحمل في سبيل عهدنا.. وسأورثهم الذل والحقارة والهوان..
إلى الطائر النجم انظري كلَّ ليلة
فإني إليه بالعشية ناظر
عسى يلتقي طرفي وطرفك عنده
فنشكو إليه ما تكن الضمائر


يا من أحببت.. إن كلماتك العظيمة أمدتني بالقوة والإصرار.. وبسماتك الوضاءة أمدتني بالأمل والإشراق.. وحياؤك الجليل أمدني بالتواضع والتفاؤل.. وقسمات وجهك البريئة أمدتني بالمحبة والعطف والحنان.. وإصرارك القوي أمدتني بالعزيمة والتحدي.. وتفاؤلك الصادق أمدني بالصدق والإخلاص.. ونظارة وجهك المشرق أمدني بالصبر والحكمة.. ومن حبي لك أحببت نفسي كل ما هو صلاح وكل الصالحين..
أحب الصالحين ولست منهم
لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي
ولو كنا سواء في البضاعة

في عصر التلون والتشكل.. عصر التغير والتحزب.. عصر الكلمات الرنانة الجوفاء.. عصر الأشكال البراقة الخداعة.. عصر التبجح والتفسخ من القيم والأخلاق.. عصر الأنانية وحب الذات.. عصر حب الظهور والتكبر والغرور.. عصر الماديات والملذات والشهوات.. عصر البقاء للأشرس والأظلم والقاسية قلوبهم.. عصر الأفاعي والحرباء.. عصر الميوعة والعري والتميع من القيم والأخلاق.. عصر الانحلال والضياع.. عصر المكائد والدسائس..
من لم يكن عنصره طيِّباً
لم يخرج الطَّيِّب من فيه
كلُّ امرئ يشبهه فعله
وينضح الكوز بما فيه

لقد تغيرت فيهم الفطرة.. وتميعت الأخلاق.. وانحلت القيم والمبادئ.. وتبدلت الأفكار.. وأصبحوا يأكلون لحم أخيهم حياً حتى قبل أن يكون ميتاً ؟!!..
وليس الذئب يأكل لحم ذئب
ويأكل بعضنا بعضاً عياناً
وأصبحت القلوب منتعشة بالحقد والحسد.. والعقول منتعشة بالبغضاء والغل.. والأفكار متشبعة بالإفساد والآراء والأفكار الهدامة.. والسلوكيات منحرفة عن الطريق القويم الذي خطه رسولنا الكريم.. وأصبح هؤلاء مثل البالون في الضخامة والحجم ولكنهم قد تقضي عليهم إبرة صغيرة!!.. والإنسان في ذلك العالم منحل من جميع القيم والأخلاق.. ويتقمص عدة شخصيات.. ويتنكر بعدة أزياء.. حتى لا ينكشف زيفه وبهتانه.. أو ينكشف سره وخداعه.. وقد ينخدع فيه الكثير.. وينساق إلي خزعبلاته العديد.. وينجر إلى أوهامه الكثير.. من محبي الظهور.. وعبدة الشهرة والزيف الكاذب.. ولكن ما هي الفائدة التي كانوا يرجونها؟!.. إنها العظمة وحب الظهور.. والتسلط والرياء والسمعة..
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله
وأجسادهم دون القبور قبور
وإن امرأ لم يحيى بالعلم قلبه
فليس له حتى النشور نشور

إي والله.. إنها لحالة يائسة.. حالة لا يطيقها من يرحم نفسه.. ولا يريدها من كان في رأسه مسكة من عقل.. فكيف يرضى فرد أن يعيش حالة الضيق والاضطراب؟!!.. فلا تهنأ نفسه.. ولا يستقر فؤاده.. ولا يهدأ باله.. ولا تنعم عينه.. ولا هو بمسرور في حياته وبين أهله وأصحابه.. وما ذلك إلا لأنه رضى حياة الذل والهون.. بابتعاده عن منهج الله.. وارتكابه ما حرم الله..
يا من يعانق دنيا لا بقاء لها
يمسي ويصبح في دنياه سفَّارا
هلا تركت لذي الدُّنيا معانقة
حتى تعانق في الفردوس أبكارا
إن كنت تبغي جنان الخلد تسكنها
فينبغي لك أن لا تأمن النَّارا

يا من أحببت.. أنت روحي وأملي وبدونك أصبحت حياتي كحياة طفل بلا أم.. أو جسداً بلا روح.. أو سفينة بلا قبطان.. أو وطناً بلا قائد.. أو جيشاً بلا سلاح.. أو وردة بلا رائحة .
هل أنت شافية قلباً يهيم بكم
لم يلق عروة من عفراء ما وجدا
ما في فؤادي من داء يخامره
إلا التي لو رآها راهب سجدا

يا من أحببت.. عندما يتردد في مخيلتي صدى صوتك.. أو تتحسس إذني نسمات نفسك.. تثور أشجاني.. فتمدني بالقوة والأمل بعد الضعف واليأس.. والسعادة والفرح بعد الكآبة والحزن.. والتفاؤل والفرج بعد التشاؤم والضيق.. من إثر تقلبات المجتمع.. وحقد العدو.. وبغض الخلان.. وكره الحساد.. ومكائد الأخ.. ونكران الصديق.. وهجران الأهل..
فيا عجباً يستشرفونني
كأن لم يروا بعدي محباً ولا قبلي
ويا عجباً من حب من هو قاتلي
كأني أجزيه المودة من قتلي

فلولا نسماتك في الوجود.. لكنت الآن في عالم العزلة والتشتت.. عالم الوحدة والأحزان.. عالم التيه والضياع.. لأنه ما باستطاعتي أن أقارع وحيداً ذلك الطوفان الجارف.. أو ذلك الإعصار المدمر..
يقولون لي إن بحت قد غرَّك الهوى
وإن لم أبح بالحب قالوا تصبرا
فما لإمرئ يهوى ويكتم أمره
من الحب إلا أن يموت فيعذرا

يا من أحببت.. لقد كنت أقرأ وأسمع عن قصص المحبين.. وحكايات العاشقين أمثال قيس وليلى.. وكثير وعزة.. وجميل وبثينة وغيرهم.. وكنت أعتقد إنها ضرب من ضروب الخيال.. أو نوع من أنواع الكذب المبتذل.. بقصد الربح السريع.. حتى يتلذذ بها الحمقى والمغفلون..ولكن..
لا تعذل المشتاق في أشواقه
حتى يكون حشاك في أحشائه
إن القتيل مضرًّجاً بدموعه
مثل القتيل مضرجاً بدمائه

أما الآن فقد آمنت بما قيل.. وصدقت كل ما كتب.. بعدما عانيت مثل ما عانوا.. وكابدت مثل ما كابدوا.. فالإنسان لا يعرف معنى وقداسة الحب.. إلا إذا عايشه.. واكتوى بناره.. فالحب هو إكسير الحياة.. وهو منبع الرحمة.. ومنبت الفضيلة..
يا لائمي كفَّ الملام عن الذي
أخفاه طول سقامه وشقائه
إن كنت ناصحه فداو سقامه
وأعنه ملتمساً لأمر شفائه
حتى يقال بأنك الخلُّ الذي
يرجى لشدة دهره ورخائه
أو لا فدعه فما به يكفيه من
طول الملام فلست من نصحائه
نفسي الفداء لمن عصيت عواذلي
في حبِّه لم أخش من رقبائه
الشمس تطلع عن أسرة وجهه
والبدر يطلع من خلال قبائه

والمرء إذا أحب ألغى من قاموسه الكره والبغض والحسد.. وأصبح قلبه مثل الثوب الأبيض.. فيعفو عمن ظلمه.. ويغفر لمن أساء إليه.. ويسامح من شتمه أو حقره.. ويصالح من خاصمه.. ويعطي من منعه.. ويبر من هجره.. ويقبل من الناس ما تيسر منهم.. ويشكر محسنهم.. ويعفو عن مسيئهم.. فيعيش قرير العين.. مطمئن النفس.. هادئ البال.. صبوراً على المعارضة.. سهل العريكة.. لين الجانب..
يا لائمي في الهوى العذري معذرة
مني إليك ولو أنصفت لم تلم

يا من أحببت.. إنك أضأت ظلمات حياتي.. وكشفتِ أسرار مكنونات صدري.. وجددتِ لي أحاسيسي ومشاعري.. واقتحمتِ أبواب قلبي المؤصدة.. وهتكت حبائـل فكري.. وأزحتِ غشاوة عقلي.. ومزقتِ ستائر ليلي وسكوني.. فأسرتِ قلبي وعقلي..
إذا وجدت أوار الحب في كبدي
ذهبت نحو سقاء الماء أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهرة
فمن لنار على الأحشاء تتقد

لقد أبصرت الهدى بعد العمى.. فبنورك اهتديت إلى الحياة.. وبقلبك الطاهر واجهت الصعاب والتحديات.. وبروحك النقية تصديت لجميع المشكلات والمعضلات.. بكل صبر وتحمل..
إني أحبُّك حباً ليس يبلغه
فهم ولا ينتهي وصفي إلى صفته
أقصى نهاية علمي فيه معرفتي
بالعجز مني عن إدراك معرفته

يا من أحببت.. لكن وبسبب طول الفراق.. وبعد المسافة بيننا.. وجور الإخوة في حياتنا.. وكثرة القيل والقال.. فإني يعتريني همان.. فيعتصران قلبي.. ويمزقان فؤادي.. ويشتتان فكري.. ويسلبان عقلي.. هَمُّ بُعدِ الفراق.. وهمَّ إصلاح هذا المجتمع.. وكلما أردت أن أزيح أحدهما عن قلبي وعقلي وتفكيري.. تكاد روحي تخرج معه فأدعه على ما هو عليه.. فيعود كما كان بل أشد وأعنف.. وقد قال لي أحدهم :
كتمت الهوى حتى أضرَّ بك الكتم
ولامك أقوام ولومهم ظلم
ونمَّ عليك الكاشحون وقبلهم
عليك الهوى قد نمَّ لو نفع النَّمُّ
وزادك إغراء بها طول بخلها
عليك وابلى لحم أعظمك الهم
فأصبحت كالنهدي إذ مات حسرة
على إثر هند أو كمن سقي السمُّ
ألا من لنفس لا تموت فينقضي
شقاها ولا تحيا حياة لها طعم
تجنبت إتيان الحبيب تأثماً
ألا إن هجران الحبيب هو الإثم
فذق هجرها قد كنت تزعم أنه
رشاد ألا يا ربما كذب الزَّعم

ولهذا ضعف الجسم.. وتشتت الفكر.. وخارت الإرادة.. وفتر العزم.. وأصبحت أمشي في الطرقات.. كجسد بلا إحساس أو عقل.. فإذا جاشت خواطري بخيالك.. هدأت نفسي.. وعاد إحساسي وعقلي..
بنفسي من غداة نايت عنهم
تركت القلب عندهم رهينا
أما لك أيها القلب اعتبار
بما فعل الهوى بالعاشقينا

وعندما يختفي خيالك عن مخيلتي عدت إلى ما كنت عليه.. فيا ترى إلى متى يستمر هذا الحال ؟!!.. وهل هناك من مخرج أو سبيل؟!!
هل إلى أن تنام عيني سبيل
إن عهدي بالنوم عهد طويل
غاب عني من لا أسمي فعيني
كلَّ يوم وجداً عليه تسيل
إنَّ ما قلَّ منك يكثر عندي
وكثير ممَّن تحبُّ القليل


يا من أحببت.. إني أحس الآن وأنت بعيدة عني كإحساس بريء وضع في سجن.. أو طائر وضع في قفص.. ينشدان الحرية التي قد تكون بعيدة المنال.. فأنت حياتي وحريتي.. ونعيمي وسعادتي..
لو حزَّ بالسيف رأسي في مودتها
لمرَّ يهوي سريعاً نحوها رأسي
ولو بلي تحت أطباق الثرى جسدي
لكنت أبلى وما قلبي لكم ناسي
لولا نسيم لذكراكم يروحني
لكنت محترقاً من حر أنفاسي
يا من أحببت.. أنت لي كالماء والهواء في هذا الكون.. فلا حياة بدونك.. ولا عيشة بفقدك..
من أجل هواكم عشقت العشقا
قلبي كلف ودمعتي ما ترقا
في حبكم يهون ما قد ألقى
ما يحصل بالنعيم من لا يشقى
فالحياة بدون مؤنس أو حبيب.. كطعام بلا ملح.. و أرض بلا نبتة أو ماء.. أو سماء بلا نجم أو شمس أو قمر.. أو إنسان قد فقد جميع حواسه وعقله.. ويعيش مثل الحيوان في هذه الحياة.
أحبك يا شمس الزمان وبدره
وإن لامني فيك السهى والفرقد
يا من أحببت.. كل قطرة دم.. شاهدة على صدق حبي لك.. وكل نبضة قلب.. شاهدة على آلامي وأحزاني بفقدك وبعد الفراق.. وكل نسمة طيف.. تذكرني بك.. وكل صرخة ألم.. تشتكي إلى الله جور الزمن.. وكل دمعـة حـزن.. تدعـو الله كي يلـم الشمـل ويجمع المحبين.. إني مجروح وأنت البلسم الشافي .
فررت من اللقاء إلى الفراق
فحسبي ما لقيت وما ألاقي
سقاني البين كأس الموت صرفاً
وما ظني أموت بكف ساقي
فيا برد اللقاء على فؤادي
أجرني اليوم من حر الفراق
فيا أهل الرحمة والعطف.. إني أتعذب.. وعذاب القلب.. أشد وأعظم من عذاب الجسد.. فعذاب الجسد يبرأ.. أما عذاب القلب فلا يبرأ.. إلا باجتماع المحبين.. فهل إلى ذلك من سبيل؟!! وهل هنالك من طريقة؟!!..
هل إلى نظرة إليك سبيل
يرو منها الصَّدى ويشف الغليل
إنَّ ما قلَّ منك يكثر عندي
وكثير ممَّن تحبُّ القليل
يا من أحببت.. أنت دائي ودوائي.. ومرضي وشفائي.. وعافيتي وسقمي.. وناري وجنتي.. وفرحي وحزني.. وكلما ألم بي ألم أو حزن.. أو اعتراني غضب أو هم.. أو اعترضتني مشكلة أو محنة.. أو جاءني السهاد والقلق فيهجرني النوم.. ثم ألم طيفك بخاطري.. انجلى كل ما كنت أعانيه.. وعدت صحيح الجسم.. معافى البال.. ولكن هل يستمر هذا الحال؟!!.
أستودع الله قلباً من فجعت به
وبالأحبة لم أسكن إلى سكن
قد كان يحمل من همي ومن حزني
ما ليس يحمله روحي ولا بدني
لا عدت إن عاد لي قلبي أعذبه
بالحسن كم من قبيح جاء من حسن
يا من أحببت.. هل يا ترى يهدأ القلب بعد الهيجان؟!!.. أم هل تسكن الروح بعد الثوران؟!!.. أم هل تخمد الأحاسيس بعد الاشتعال؟!!.. أم هل يصمد الجسم أمام عدوه الهزال.. ويقارع الأمراض والأسقام؟!.. أم هل تطمئن النفس بعد الفراق؟!!.. أم هل يتحد التركيز والتفكير بعد التيه والضياع؟!!.. وهل بعد الشدة من فرج؟!!.. وهل بعد اليأس والقنوط من استبشار وتفاؤل؟!!.. وهل بعد الظلم والجور من عدل وبر؟!!.. وهل بعد الإساءة من إحسان؟!.. وهل تعود الراحة والطمأنينة بعد البعد والفراق؟!!.. وهل يعود النوم بعد التشتت والهجران؟!!.. وهل تعود الصحة بعد السقم؟!.. وهل يعود الفرح والسرور بعد الضيق والحزن؟!.. وهل تعود السعادة بعد الكآبة؟!.. وهل يعود الأمل بعد اليأس؟!.. وهل تعود القوة بعد الضعف؟!.. وهل تعود الحياة بعد الموت؟!.. وهل يعود الحب بعد الكراهية؟!.. وهل هنالك لقاء بعد الفراق؟!.. وهل تعود العافية بعد المرض؟!.. وهل تعود الابتسامة بعد البكاء؟!.. وهل؟!.. وهل؟!.. وهل؟!.. فهل يا ترى؟!.. وإلى متى؟!...
يقول أناس لو وصفت لنا الهوى
لعلَّ الذي لا يعرف الحب يعرف
فقلت لقد ذقت الهوى ثم ذقته
فو الله ما أدري الهوى كيف يوصف
فيا زهرة حياتي.. وربيع عمري.. ومصباح دجى ليلي.. هذه تساؤلات عقلي.. واستفسارات الضمير الحي.. وقد لج بالسؤال.. وقد أجاب قلبي المثخن بالآلام والأحزان..والمكتوي بنهار البعد والفراق.. نعم يعود كل شي إلى حاله وطبيعته.. حين يتلاقى المحبان.. فتنقشع غمائم الآلام والأحزان.. وتأتي سـحائب المحبـة.. ويسقـط رذاذ الوئـام.. فتغتسل القلوب والضمائر بالتآلف.. وتنتعش الروح.. فتهب نسائم الوجد.. فتطرد رياح الحقد والبغض والكراهية والحسد.. وتعيد الصفاء والسرور في جميع أرجاء المكان.. وتنهمر عبارات الشوق.. فتحل السكينة والوقار.. وتعيد نور الحياة بعد موت الظلمة.. وانتصار الحق.. وعودة الأمل.. فيحل الأمن والطمأنينة.. ويندحر كيد الحساد والحاقدين.. فتحيا قلوب المحبين.. بإشراقة شمس الصباح.. ونشوة النصر.. وعودة السلام.. بسبب الصبر والكفاح.. وعدم اليأس..
اصبر على الدهر إن أصبحت منغمساً
بالضيق في لجج تهوي إلى لجج
فإن تضايق باب عنك مرتتج
فاطلب لنفسك باباً غير مرتتج
لا تيأسنَّ إذا ما ضقت من فرج
يأتي به الله في الرَّوحات والدُّلج
فما تجرَّع كأس الصبر معتصم
بالله إلا أتاه الله بالفرج
فاعذريني يا من أحببت.. على هذه الكلمات المتواضعة.. والتي جاشت بها نفسي وأحاسيسي.. فعبر عنها قلمي.. بمداد دمي.. والتي لا تدل إلا على جزء يسير مما أعانيه.. من آلام وأحزان.. وفراق وهجران..
يا حادي العيس اصخ لمدنف
متيم لج به الغرام
إذا وقفت في ثنيات اللوى
ولا الديار والخيام
وافترت الرياض عن أزهارها
عقيب ما قد رحل الغمام
وهبت الريح فهب شيحها
وانتبه الحوذان والثمام
فقف قليلاً نتزود نظرة
تحيا بها الأرواح والسلام
وقد خانني في كثير من الأمور التعبير عما أعانيه.. فإن لاقت قبولاً منكم.. فإنها مرسلة من قلب جريح إلى قلب عطوف رحيم.. ومن جسم سقيم من أثر الهموم والأحزان إلى من نرجو عنده الشفاء..
يقول أناس لو نعت لنا الهوى
ووالله ما أدري لهم كيف أنعت
سقام على جسمي كثير موسَّع
ونوم على عيني قليل مفوَّت
إذا أشتدَّ ما بي كان أفضل حيلتي
له وضع كفي فوق خدي وأسكت
ومن إنسان مظلوم إلى قاضٍ يستطيع أن يمايز بين الحق والباطل.. وبين الهدى والضلال.. وبين النور والظلمة.. وبين زخرف القول من جيده.. وبين الأقاويل الفاسدة.. والحجج والبراهين الكاسدة.. فلا تنطوي عليه حيل وألاعيب الحاقدين .. ولا أقوال النمامين.. ولا كلام المشككين.. ولا أساليب المنافقين.. ولا خبث الحاسدين.. ولا مكر الماكرين.. ودهاء أبناء الشياطين.. وارحموا عزيز قوم ذل..
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم
وتذنبون فنأتيكم فنعتذر
شكوت ما بي إلى ... فما اكترثت
ما قلبها؟ أحديد أنت أم حجر؟!
لا تحسبيني غنياً عن مودتكم
فلي إليك وإن أيسرت مفتقر
وإلا فاعتبريها.. قد صدرت من هذيان رجل قد شارف على الموت والهلاك؟!!.. أو اعتراه عارض من الجنون ؟!!.. أو مس من الجن ؟!!..
قالت جننت على ذكري فقلت لها
الحبُّ أعظم مما بالمجانين
الحب ليس يفيق الدهر صاحبه
وإنما يبرء المجنون في الحين
أو أعتبريها قد أخطأت الرسالة العنوان.. فارجوا العفو والمغفرة.. إذا كنت قد سببت بهذه الكلمات المتناثرة.. أي إزعاج أو ألم.. أو ضيق أو حزن.. والمسامح كريم..
كتبت كتابي ما أقيم حروفه
لشدة إعوالي وطول نحيبي
أخطُّ وأمحو ما خططت بعبرة
تسح على القرطاس سحَّ غروب
سأحفظ ما قد كان بيني وبينكم
وأدعوكم في مشدي ومغيبي
وإني لأستهدي الرياح سلامكم
إذا أقبلت من نحوكم بهبوب
يا من أحببت..
أتهجرون فتى أغري بكم تيهاً
حقاً لدعوة صبٍّ أن يجيبوها
أهدى إليكم على نأي تحيته
حيوا بأحسن منها أو فردُّها
يا من أحببت.. وفي الختام أدعو الله الكريم الرحيم.. أن يفرج كربنا.. ويستر ما انطوت عليه قلوبنا.. وأن يلهمنا الصبر على الفراق.. وأن يرحمنا من عذاب الشوق والحرمان.. ويغفر لنا ما تنطوي عليه أنفسنا من شوق وحب.. إنه هو الغفور الرحيم.. وإنه هو البر الكريم.. ربي اغفر ورحم.. وأنت خير الراحمين..
إلهي لا تعذبني فإني
مقر بالذي قد كان مني
ومالي حيلة إلا رجائي
وبعفوك إن عفوت وحسن ظني
فكم من زلة لي في البرايا
وأنت عليَّ ذو فضل ومنٍ
إذا فكرت في قدمي عليها
عضضت أناملي وفرعت سني
يظن الناس بي خيراً وإني
لشر الناس إن لم تعف عني
أُجن بزهرة الدنيا جنونا
وأفني العمر فيها بالتمني
وبين يدي محتبس ثقيل
كأني قد دعيت له كأني
ولو إني صدقت الزهد فيها
قلبت لأهلها ظهر المجنِّ
( تمت الرسالة)

حدائق ذات أفنان ج1 ـ الرسائل : 1) (رسالة إلى فلسطين)

الحمد لله الذي أمر بقتال الأعداء.. وأنزل على عبده الكتاب فأعجز به البلغاء.. وآمن به الحكماء.. ورضي بحكمه العقلاء.. وجعله لنا هادياً ونذيراً.. ومرشداً وبشيراً.. من تمسك به فقد رشد.. ومن زاغ عنه فقد فسد.. من اعتمد عليه في موالاته ومعاداته فهو له سراج منير.. القائل في كتابه العزيز.. { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216) .. وقوله سبحانه :{ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } (التوبة: 36).. وقوله سبحانه :{ إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (التوبة: 111).. والقائل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } (الصف:10ـ 13).. والصلاة والسلام على أشرف خلقه.. وخير رسله.. محمد صلى الله عليه وسلم .. الذي مزق الله ببعثته ظلام الكفر.. وجعل من هديه عدم مولاة اليهود والمشركين جملة وتفصيلا.. الحاض على مجاهدة الأعداء.. ونصرة الضعفاء.. القائل : << جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم >>(المستدرك على الصحيحين [2427] ج2 ص91).. والقائل : << رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها >> (صحيح البخاري [2735] ج3 ص1059).. والقائل : << تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو ضامن عليَّ أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى منزله الذي خرج منه بما نال من أجر أو غنيمة.. والذي نفس محمد بيده ما من كلم يُكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم لونه لون الدم وريحه ريح المسك.. والذي نفس محمد بيده لولا أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني.. والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل >>( صحيح مسلم [1876] ج3 ص1495).. وعلى آله وصحبه الأطهار.. الذين تحابوا في الله حباً بلغ مبلغ الكمال.. وجاهدوا في سبيل نصرة هذا الدين جهاداً عظيماً.. وأرغموا فيه أنوف الأعداء.. وجاهدوا فيه الكفار والمنافقين والمجوس واليهود والنصارى جهاداً كبيراً.. وتميزوا به عن أهل الضلال والزيغ.. فلم يرضوا منهم بأنصاف الحلول سبيلا.. أما بعد...
أحـلَّ الكفــر بالإسـلام ضيمـاً
يطــول عليــه للديــن النحيـب
فحــق ضائــع وحمـى مبـاح
وسيـــف قاطـــع ودم صبيـب
وكـم من مسلــم أمسـى سليبـاً
ومسلمــة لهــا حـــرم سليـب
وكـم من مسجـد جعلـوه ديـراً
علـى محرابــه نصـب الصليـب
دم الخنزيـر فيـه لهـم خلـوق
وتحريـق المصاحـف فيــه طيـب
أمــور لـو تأمَّلــهن طفــل
لطفّـل في عوارضـــه المشيـب
أتسبـى المسلمـات بكـل ثغــر
وعيــش المسلمين إذن يطيــب
أمـا والله والإســلام حـــق
يدافــع عنــه شبـــان وشيـب
فقل لـذوي البصائـر حيث كانوا
أجيبــوا الله ويحكـــم أجيبــوا

فلسطين .. حاولت أن أكتب عنك كلمة.. أو أرسل إليكِ رسالة.. أو أعبر لك بعبارة.. تعبر عن مدى حزني وألمي.. وهمي وغمي.. بسبب ما يحدث في أرضكِ الطاهرة.. وأماكنك المقدسة.. من قتل وهدم وإحراق وتشريد وعربدة وفساد.. ولكن.. ماذا أكتب؟! وماذا أقول؟! ولمن أكتب؟! وهل هناك من يسمع أو يعقل؟! في هذا الزمن العاثر.. الذي تغيرت فيه المفاهيم.. وتبدلت القيم والأخلاق.. وسيطر الأوباش على حياة الناس.. تساؤلات تدور في خاطري.. تارة تشدني إلى الكتابة.. وتارة أخرى تبعدني عنها بسبب اليأس والسآمة.. لما آلت إليه أمتي من الضعف والوهن.. والجبن والخوف.. والاستجداء من الأعداء.. وطلب العون والتأييد من العبيد.. والرضوخ للطغاة ومصاصي الدماء.. فهذه الأمور مجتمعة منعتني بعض الوقت عن الكتابة.. وآلت بي إلى الركون والدعة.. ولكن عقلي لم يركن لمطالب جسدي.. وفكري لم يستجب لوسوسة نفسي.. فلم يتوقف عن التفكير.. والبحث عن المخرج أو السبيل.. فأخذ يشجعني على الكتابة.. ويؤملني بالانتصار على النفس وقيود الأعذار.. وينصحني بالكتابة في التو والحال.. وقذف بركان غضبي حتى لا ينفجر فيحرق جسدي.. ولكني قبل أن أكتب مقالي إليك يا فلسطين تساءلت.. هل أكتب نعي لوفاتك بسبب تخاذل الأمة الإسلامية عن نصرتك؟!.. أم أكتب عن الجرائم والمذابح والمجازر والتقتيل في شعبكِ الأبي؟! .. أم أكتب عن أساليب الاغتيالات الإسرائيلية وبشاعتها وهمجيتها؟!.. أم أكتب عن هدم البيوت وتدنيس المساجد؟! .. أم أكتب عن اغتصاب أرض وهتك عرض؟!.. أم أكتب عن المؤامرة العالمية لإخراجكِ من الأمة الإسلامية؟!.. أم أكتب أهنئك أم أعزيك بشهدائك الأبطال البواسل؟!.. أم أكتب لأحيي فيك انتفاضتك المباركة؟!.. أم أكتب عن أطفال الحجارة العظام؟!.. أم بصمود شعبك الجبار في وجه الأشرار؟!.. أم أكتب عن تاريخكِ العظيم؟!.. أم أكتب عن النكسات والهزائم؟!.. أم أكتب عن التشريد والتهجير؟! .. أم أكتب عن المخيمات واللاجئين؟!.. أم أكتب عن إراقة الدم الطاهر الزكي على عرصات الطهر والقداسة؟!.. أم أكتب عن الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان من قبل أناس لا يعترفون بالنظـام؟!.. أم أكتب عن قتـل الأطفـال والرضع؟!.. أم أكتب عن قتل النساء والعجائز؟!.. أم أكتب عن بقر بطون الحوامل؟!.. أم أكتب عن حادثة اغتيال البراءة؟!!.. أم أكتب عن الطفولة وما تعانيه من الألم والظلم والقسوة؟!!.. أم أكتب عن التخويف والتجويع؟!.. أم أكتب عن الحصار والتركيع؟!.. أم أكتب عن التنكيل والتذليل؟!.. أم أكتب عن السجون والمعتقلات؟!.. أم أكتب عن عربدة الأشرار في أرضكِ الطاهرة وسكوت العالم الحر؟!.. أم أكتب عن تاريخ اليهود الدامي الأسود؟!.. أم .. أم .. أم.. لقد حار فكري وتشتت أفكاري.. فلا أدري ماذا أكتب؟!.. ولمن أكتب؟!.. وهل تفيد في هذا الزمن الكتابة؟!.. وهل ينفع الكلام؟!.. وهل هناك من يسمع؟!.. وهل هناك من يبصر؟!.. بعد أن انطمست البصائر.. وتحجرت القلوب.. وتاه الناس في متاهات السلام!!.. وغرد الصقر بين أسراب الحمام؟!!.. ولكن رغم ذلك قررت أن أكتب إليكِ يا فلسطين.. سمع من سمع.. وقرأ من قرأ.. وعقل من عقل.. فلا يهمني إلا أنت ...
ألإسرائيــل تعلــو رايــة
في حمى المهـد وظل الحـرم
رب وامعتصمـاه انطلقــت
ملء أفـواه الصبايــا اليتـم
لامسـت أسماعــهم لكنـها
لم تلامـس نخـوة المعتصـم
فلسطين .. يا أرض العفة والنقاء .. يا أرض البطولة والفداء .. يا أرض الأمجاد والعطاء .. يا أرض الجدود والآباء.. يا أرض السعادة والنماء .. يا أرض المعراج إلى السماء.. يا أرض العزة والإباء.. يا أرض المجد والرخاء.. يا أرض الجهاد وساحات الأقوياء.. يا أرض الطهر ورسالة السماء.. يا أرض الإيمان والعلماء .. يا أرض الرسالات وحضارة العظماء.. يا أرض القدس الشماء.. يا منبع الروح ومنبت الفداء.. إننا على العهد والوفاء.. وماضون في طريقنا رغم القيود وهذا البلاء.. ولكن إلى متى هذا الجفاء من أمة خرساء وعمياء؟!.. أما آن لها النهوض وترك البكاء.. على ما مضى من تاريخ الآباء.. ونسيان الماضي.. والعمل للتشييد والبناء.. وبناء تاريخ مشرق يفتخر به الأبناء.. واستئصال من أرضنا الطاهرة ذلك الوباء.. لتعود لنا أرض الجدود والآباء.. ولتعود لنا إشراقة الصبح وابتسامة المساء.. ونصلي في المسجد الطاهر ركعتي شكر على تلك النعماء..
أيها الشادي بلحن كف عيناً دامعه
إنما يحلو نشيدي يوم جردت الحسام
ثم صليت بساحي وقرأت الواقعة
وسبقت الخطو تعدو بين أرجاء الزحام
كي تذيقن الأعادي ما لعوالي صانعة
كيف رد الفعل منا في ضروب الانتقام
حربنا كر وفر وسموم ناقعة
وبنو صهيون صرعى تلفظ الموت الزؤام
فلسطين .. دعي مبادئ الغرب ومناشدة حقوق الإنسان.. دعي الأمم المتحدة والتوسل إلى الأمريكان.. دعي قرارات مجلس الأمن التي أصبحت يتهكم عليها الصبيان.. دعي مقارعة الصمان والعميان.. فقد مات الضمير وانعدم الإحساس في ذلك الإنسان.. وعششت في نفوسهم عولمة هذا الزمان.. فالأمم المتحدة أصبحت مأوى كل ظالم وشيطان.. ومجلس الأمن حامل لواء الصلبان.. إذا أراد أن يظهر حقاً نسف بفيتو الأمريكان.. وبـوش الابن كان أعمى حيث أنه لم يشاهد شعب يذبح مثل الخرفان.. وأطفال كانوا ضحية غدر ولم تتجاوز أعمارهم السنتين.. بيوت تهدم وأشلاء متحولة من أبدان.. لم يشاهد التدمير والخراب في كل مكان.. لم يشاهد الحصار والتجويع لتركيع أولئك الشجعان.. لم يشاهد عربدة شعب لا يعترف بقانون ولا حقوق الإنسان.. فكان أعمى وأصم وفوق ذلك أطلق لسانه بالهذيان.. ولم يقتنع بحقيقة أمره ولكنه تبجح وأطلق على الجزار ورجل الإرهاب رجل السلام؟!!.. والشعب المظلوم المطحون إرهاب وأعداء للسلام؟!! فهذه هي مقاييس أهل الطغيان.. وهذه هي مفاهيم أهل الجبروت والصلبان..
وهذه يهود المكر باتت لسحقنا
تعد قواها خلفنا وتؤهب
إذا لاح وجه الصبح تطفئ نوره
غيوم تغطي الأفق الأرض عنا وتحجب
فهبي هبة مارد غضبان.. واقتلعي جذور الظلم من السيسان.. لتعود الأرض والعمران.. ويعود الوطن المنشود إلى الأحضان.. ويعود أصحاب الشتات من الهجران.. ويعود الفلاح لزرع البستان.. وتعود ابتسامة البراءة ويعود الأمان.. فلا ينفعكِ في هذا الزمن بوش ولا كوفي عنان(1).. ما داموا يسبحون في بحر شارون ذلك الجبان.. قسماً قصر الأمد أو طال الزمان.. ستحرر أرضك من الطغيان.. إن اتبعتِ سبيل الرحمن.. وسلكت طريق أهل الرضوان.. وتركت طاعة أهل الكفر والفسوق والعصيان...
أفق فالدجى ولى مع الأمس مدبرا
ولاح نهار الجد والجد أصعب
وودع فراش النوم وانفض خموله
ودنيا ظلال الذل فالموت أصعب
وخض بفؤاد الصبر عاصفة الردى
فخوض دواهيها أعز وأصلب
وشدو أغانيها يهزك رجعه
وريح شذاها في الشدائد أطيب
أفق من سبات مل هذا الكون طوله
فحولك آلاف المذابح تندب
فيا ضائعاً في التيه من غير مقصد
تعلق بركب النور فالتيه مرعب
فقد ضل من سارت خطاه بلا هدى
وليس له بين الخلائق مأرب
فلسطين .. يا مقبرة الأطهار.. ومنبت الأخيار .. ومساكن الأبرار.. وشعبها الجبار.. وأطفالك الذين هم رمز المنار.. وبهم نلنا العز والوقار.. فتحية إجلال وإكبار.. لأولئك الصغار في الجسم وفي الأفعال كبار.. والذين مسحوا من حاضرنا العار.. وتحية أيضاً لشهيدنا البطل المغوار.. قاهر الصعاب والأخطار.. فبك إسرائيل أصابها الجنون والسعار.. وأصاب شعبها الهلع والخوف والإعسار.. وأصاب اقتصادها الإفلاس والدمار.. وبك حلت في دارنا الأنوار.. بعد ظلمة القرار.. والاتكال على الأقدار.. ونسيان الاعتماد على الواحد القهار.. وصار الذي صار...
دم الشهداء مداد الكرا
مة .. مصباحنا في دياجي المحن
بإقدامهم سطروا المعجزات
جهاداً يدكُّ جدار الوهن
ويحطم قيد الخنوع الذميم
ويخلع عنا رداء الكفن
فندرك من نحن!! ما حقُّنا
ونصحو لنملأ عين الزمن!
فلسطين .. لقد لحق بنا باغتصابك العار.. ونسينا حق الأهل والجار.. ومن جبننا اختبأنا تحت الخمار.. وكل شيء في حياتنا قد بار.. وأصبحت حياتنا لا يوجد فيها يوم سار.. وتناسينا المبدأ والمنتهى والقرار.. وأن هناك يوماً حاراً.. وتناسينا لقيا الملك الجبار..الذي لا تخفى عليه خافية في الليل ولا في النهار.. فإسرائيل في بلادنا تهدم وتدمر ونحن في اجتماعاتنا ومنتدياتنا نطالب بالإعمار؟!.. وإسرائيل تقضي على الأخضـر واليابـس ونحن نناقش قضية إرهاب الصغار؟!!.. فأصبح حالنا أن إسرائيل ترعبنا بالدبابات والجرار.. ونحن نرعبها بالكلام النشاز والشنار.. وتارة بالتنديد والاستنكار.. وتارة بالإدانة والشجب الذي أصبح رمزنا يا للعار.. واكتفت أمتي من الاجتماعات المنعقدة بعرض القرار.. وقالت عقب كل اجتماع يكفينا لضحايا شعبنا من اليهود الاعتذار.. ونادى منادي في الملأ بعد الاجتماع هيا يا صحبي إلى البار.. لنحتسي كأس الانتصار؟!!.. ولم تتعظ أمتي من قصص اليهود في القرآن وفي سيرة خير الأبرار.. وأنها وجدت هذه القصص للاتعاظ والاعتبار.. والاستذكار والاستعبار.. لا للتفكه والتندر في الحل والأسفار.. ولم تتيقن أمتي بعد أن اليهود ليس عندهم ذمة ولا عهد ولا وقار.. فحق علينا الهوان وأن يقذفنا ربنا في النار.. وأن يسوينا مع زمرة الكفار والفجار...
ناديت قومي والرياح عنيفة
والصمت كهف والظلام مخيم
ناديت لكن الذي ناديته
أعمى أصم عن الحقيقة أبكم
ناديت لكن الذي ناديته
أمسى على ماء التخاذل يرقم
ناديت لكن الذي ناديته
بالنوم في الفرش الوفيرة مغرم
ويئست ثم تركت قومي بعضهم
يبدي تآمره وبعض يكتم
ومضيت وحدي في دروب عزيمتي
إن المجاهد حين يصدق يعزم
ورأيت أعدائي صغاراً كلما
واجهتهم بيقين قلبي أحجموا
وغدوت أدعو من رجال عشيرتي
من سافروا خلف السراب ودمدموا
يا من رحلتم في دروب شوكها
صعب المراس ورملها متكوم
هذي منابركم تزلزل نفسها
سأماً وقد كفرت بما قررتمو
طيروا بأجنحة السياسة حيثما
شئتم وقولوا ما أردتم وارسموا
وقفوا أمام وسائل الإعلام في
صمت لتأخذ صورة وتبسموا
واستمطروا من هيئة الأمم التي
هرمت بقايا عطفها كي تغنموا
وترقبوا تأشيرة لدخولكم
فلربما جادوا بها وتكرموا
وابنوا لكم في كل أرض دولة
ألشعب والحكام فيها أنتمو
ودعوا لنا درب الجهاد فإنه
درب الخلاص لنا وإن كابرتموا

وغنت المطربة في ساحة الأقصى أغنية السلام.. وتلاطمت كؤوس نخب الانتصار.. وأعلنت الراقصة إن هذا اليوم يوم عيد ورقصها بالمجان.. وأعلن التلفاز أنه قد حان رفع الحصار.. وخروج الاستعمار.. وقص شريط الانتصار.. وحان مسح العار.. فكما ترين هذا هو حال أمتي.. وهذه هي أحلامهم وأمانيهم في هذا الزمان.. وهذا الذي كان وصار وما زال..
وإذا سألتم عن بني قومي ففي
كتب الحقيقة ما يمضُّ ويؤلم
لا تسألوا عن حالهم فهناك من
يمحو مآثر شعبه ويهدم
وهناك من يبني سعادته على
كتف الضعيف ويستبد ويظلم
وهناك من يسخو على شهواته
ويمضه في المكرمات الدرهم
وهناك من ينسى بأن رحاله
تمضي وأن الموت أمر مبرم
إني أقول وللدفاتر ضجة
حولي تهيب من صداها المرسم
لو كان أمر الناس في أيديهمو
ما مات فرعون وقام المأتم
لو كان أمر الناس في أيديهمو
ما ظل مكتوف اليدين الأشرم
لو كان أمر الناس في أيديهمو
ما سف من ترب الهزيمة رستم
سكت الرصاص فيا حجارة حدثي
أن العقيدة قوة لا تهزم
فمالك إلا نفسك.. فكسري القيد.. وحلي الأغلال..وفكي الرباط.. وحلقي في السماء.. وغردي خارج السرب.. بعد التوكل على الرب.. تظفري بالنصر.. وتفوزي بالأرض.. وتحفظي العرض...
وإن طوقتنــي جيــوش الظـلام
فإنــي علـى ثقــة بالصبــاح
وإنــي علـى ثقــة من طريقي
إلـى الله ربِّ السَّنــا والشـروق
فـإن عاقنـي الشـوق أو عقنــي
فإنـي أميــن لعهــدي الوثيـق
أخـي أخــذوك علــى إثرنـا
وفـوج على إثـر فـوج جــديد
فـإن أنــا مـتُّ فإنــي شهيـد
وأنـت ستمضـي بنصـر مجيـد
قـد اختارنــا الله فـي دعوتــه
وإنَّـا سنمضــي علـى سنتــه
فمنَّـا الذيــن قضــوا نحبـهم
ومنــا الحفيــظ علـى ذمتـه
أخـي فامـض لا تلتفـت للـوراء
طريقـك قــد خضبتـه الدمـاء
ولا تلتفـت هـاهنـا أو هنــاك
ولا تتطلــع لغيــر السمــاء
فلسطين.. إن جحدك الجاحدون.. ورماك الحاسدون.. ومزقك المغتصبون .. وانهال عليك النمامون.. وثبطك المثبطون.. وتكاسل عن نصرتك الجبناء.. وباع أرضك الخائنون.. وتاجر بك المرابون.. وتشمت بك الحاقدون.. وحاك المؤامرة في استئصالك الأعداء.. وساوم عليك الأنذال والسفهاء.. ونساكِ البلهاء.. ولم تسلمي من لسان الأغبياء.. فأنت في القلوب راسخة.. ونحن على حبك ثابتون.. وعلى عهدنا ووعدنا ماضون.. وفي سبيل تحريرك سالكـون.. وإن وجدنـا في طريقنا القـلاع والحصـون.. لن يثبطنا عن تقبيل ترابك ولو بعد حين...
لا الشرق يبغي عزنا كلا ولا
غرب التحلل إنه كالحية
الكل يبغي ذلنا وهواننا
من غير ربي منقـذ من حيرتي؟
فلسطين.. لقد فتحك عمر الفاروق.. وحررك صلاح الدين الأيوبي.. أما الآن.. فأمتي نائمة.. وعن الجهاد راقدة.. وفي اللهو سامدة.. وفي الملذات منغمسة.. وتنتظر .. عمراً ثانياً أو صلاحاً آخراً.. حتى يحرر أرضكِ من دون سلاح.. ويأتي بالنصر والفلاح.. واستمر هذا الحال دهوراً.. نمني أنفسنا بالأوهام والأحلام.. والإعلام يوهمنا بهذه الأكذوبة حتى أصبحنا لا نفرق بين الواقع والخيال.. ولم نكتفِ بهذا ولكن كنا نرجوا من الزمان أن ينجب لنا غلاماً.. لعله يوقظ فينا ما قد نام.. وليحيي ما قد مات.. ولكن لم يستجب الزمان.. ولم يأت الغلام.. ثم دعونا مرة أخرى ليعود صلاح من الأجداث .. وننادي عند قبره بأعلى صوتنا .. قم يا صلاح .. قم يا صلاح.. فقد آن وقت النصر والنجاح.. وقد حان موعد الكفاح.. وندعوه كل مساء وصباح.. لعله ينهض من قبره ويطهر الأرض من والأوساخ والأنجاس.. ويزيل ما علق من دنس الأرجاس.. ولكن لم يسمعنا صلاح.. ولم يقم صلاح.. ولم يأت صلاح.. ولكن ذهبت مع نداءاتنا الأراضي والأرواح.. ودمرت البيوت والسلاح.. وهتكت الأعراض واغتيل الصلاح.. ولم يهمنا ذلك ولكن همنا عودة صلاح.. ولم نيأس من عدم استجابته لنا ولا من كثرة النباح.. ولكن في خضم هذه الكوارث جاءت الأيام الملاح .. ووجد المنقذ ووجد الفلاح.. ووجد من يأتي بالخلاص والإصلاح.. حيث تراءت لي لمحة من أمل في عودة أيام صلاح.. ولكن ليس فيها صلاح .. إنما فيها أحفاد صلاح.. إنهم أطفال الحجارة رجال في زمن الأشباح..
أماه قد أزف الرحيل فهيئي كفن الردى
أماه إني زاحف للموت لن أترددا
أماه لا تبكي عليَّ إذا سقطت ممددا
فالموت ليس يخيفني ومناي أن استشهدا
والحرُّ يأبى أن يلين وأن يهادن مفسدا
أنهم هم أملنا في عودة أيامنا الملاح.. وعودة حي على الفلاح.. ويعود كل ما قد راح.. مع إشراقة شمس الصباح...
لا تخـش يـا أبتــي علـيَّ فربمـا
قامـت على عـزم الصغيـر بــلاد
دعنـا نسافــر فـي دروب إبائنـا
ولنـا من الهـــمم العظيمــة زاد
ميعادنــا النصـر المبيـن فإن يكن
مـــوت فعنــد إلهنــا الميعـاد
دعنــا نمــت حتى ننـال شهـادة
فالمــوت في درب الهـدى ميــلاد
((تمت))

(1) للعلم : كتبت هذه الرسالة عندما كان كفي عنان أمين عام الأمم المتحدة وشارون زعيم الكيان الصهيوني..

الأربعاء، 16 سبتمبر 2009

من قبائل ضنك ( قبيلة البداه )

قبيلة البادي

من القبائل المشهورة في ولاية ضنك ، وهي من القبائل الأزدية ، تنتسب لـ مالك بن فهم بن غنم بن دوس بن عدنان بن عبدالله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبدالله بن مالك بن نصر بن الأزد ، فيقال لهم ( أولاد فهم ) ، كما هو الحال عند جيرانهم قبيلة بني يزيد التي تنتسب لـ يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي ، ويقال لهم ( أولاد معاوية ) .

تستوطن هذه القبيلة بلدة " دُوت " بولاية ضنك ، واسم "دوت " يطلق على إحدى قرى وادي فدى [ضنك] ، وهي تقع في الجهة الشرقية من ولاية ضَنْك ، حيث يحدها من الغرب بلدة " علاية ضنك " ومن الشرق بلدة " فِدى " ومن الجنوب " جبال وادي بجلا " ومن الشمال " الجبل الأبيض " .

وهي تقع على الجهة اليمنى من وادي فدى [ضنك] للقادم من جهة فِدى حيث يقول مؤلف كتاب " دليل الخليج " أثناء حديثه عنها ما يلي : " دوت على الضفة اليمنى ، 100 منزل لبداه وسعيدة ، لديهم 1000 شجرة نخيل " .

وتبعد هذه القرية عن مركز الولاية بحوالي ( 14 كم ) وتنقسم إلى عدة مناطق وهي :المدري ـ المناجير ـ الشريعة ـ البلاد ـ الظاهرية ـ أبو ملة ـ الفليج ـ حرضي ـ سالمة ـ المحينية.

وتنطق كلمة ( دُوْت ) بضم حرف الدال وسكون الواو وهذا هو الشائع في النطق عند عامة الناس ، حيث إننا عندما نذكر هذه الكلمة نضم أولها كأن يقول القائل منا: ( ذهبت إلى دُوْت ) أو (كنت في دُوْت ) .

كما تنطق بفتح حرف الدال ( دَوْت ) ، وقد وردت في إحدى قصائد الشيخ الفقيه سليمان بن محمد بن ربيعة بن زيد بن درع المربوعي الضَنْكي ، من علماء القرن الثاني عشر الهجري ، كان حيا إلى سنة 1141هـ حيث يقول في مطلع إحدى قصائده:
ما القول في ذات حمل من فِدى خرجت ....* تؤم دَوتا فماتت قبل أن تصلا

أما من حيث أصل كلمة ( دَوْت ) فالظاهر أنها مشتقة من كلمة الدوي بحيث يقول القائل ( دَوَت الريح ) أي صار لها صوت أو ( دَوَت الرعود ) ثم بعد ذلك حرفت إلى النطق الحالي .

وقد جاء في " لسان العرب " : ( الدوي : الصوت ، وخص بعضهم به صوت الرعد ، وقد دَؤَّى الصوت يدَوَّي تدوية . ودوي الريح : حفيفها ).

وقال صاحب كتاب " العين " : ( ودويّ الصوت ، يقال منه : دوَّ الصوت يدوَّ تدوية )

وهذا الإسم ـ أي ( دَوْت ) ـ اسم قديم أطلق على هذه القرية منذ مئات السنين وليس إسما حديثا ، حيث يذكر المؤرخ العماني العوتبي ـ من علماء القرن الخامس الهجري ـ في كتابه " الأنساب " ج1 / ص 441 أثناء حديثه عن قبائل كندة وبالذات قبائل بني الحارث الأصغر بن معاوية الأكرمين بن الحارث الأكبر بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة ما يلي) : ( وأما بنو سعيد بن سعد فكانوا أهل دوت ) .

وبنو سعيد هؤلاء الذين ذكرهم المؤلف هم : بنو سعيد بن سعد بن الأرقم بن النعمان بن وهب بن ربيعة بن معاوية بن الحارث الأصغر بن معاوية الأكرمين بن الحارث الأكبر بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة .

كما ذكرها صاحب كتاب " الخليج العربي بلدانه وقبائله" أثناء حديثه عن قبائل عمان حيث يقول : " قبيلة بني سعدة (1) عددهم خمسمائة يسكنون دوت في الظاهرة غافريون " .

ويقول المؤرخ " ج . ج . لوريمر " في كتابه " دليل الخليج " أثناء حديثه عن ضنك : ( دوت على الضفة اليمنى ، 100 منزل لبداه وسعيدة (2) ، لديهم 1000 شجرة نخيل ) . (3)

وأعتقد ـ والله أعلم ـ أن هذا الإسم أطلق على بلدة " دوت " لأحد سببين :
أما بسبب صوت الريح عندما تهب على هذه القرية المحاطة بالجبال فيكون لها دوي فاشتق منه اسم " دوت " .
أو بسبب دوي صوت المناجير التي كانت تستخدم في إستخراج المياه من باطن الأرض والتي كانت تشتهر بها هذه القرية وخصوصا إن إحدى مناطق " دوت " يطلق عليها إسم " المناجير " إلى الآن بسبب كثرة المنَاجِير بها قديما ، فلعلها سميت بهذا الإسم بسبب دوي صوتها .
كما يوجد سبب آخر لهذه التسمية ذكره الشيخ سعيد بن سالم المقلودي البادي (4) ـ في بحث أعده عن بلدة دوت ـ وهو أنها سميت بهذا الإسم نسبة لـدوي صوت المدافع.

ويوجد بها الكثير من المعالم الأثرية كالحصون والبروج والمساجد ، بعضها تم تأسيسه على يد قبيلة بني ساعدة والبعض الآخر من تأسيس قبيلة البداة ، ومن هذه الحصون :
حصن دوت: يقع هذا الحصن في وسط بلدة دَوْت وما زال متماسكا رغم عوادي الزمن وتقلبات الأحوال التي مرت عليه .ويذكر أن باني هذا الحصن هو الشيخ علي بن محمد البادي.

برج دوت : يقع هذا البرج في بلدة دوت بالقرب من حصن دوت وهو يعتبر من ضمن توابع هذا الحصن ، ويمتازهذا البرج بالإرتفاع ويتكون تقريبا من ثلاثة طوابق وما زال موجودا إلى الآن .

مسجد ند القديم : يقع هذا المسجد في بلدة دوت في منطقة مرتفعة منها يطلق عليها اسم " ند " ولذا سمي بهذا الإسم نسبة إلى هذا الند ، وقد أسس هذا المسجد الإمام عزان بن قيس البوسعيدي رحمه الله تعالى عندما قدم إلى ولاية ضنك عام 1870م ، ويتكون هذا المسجد من صرحين داخلي وخارجي وبه محراب وما زال هذا المسجد موجودا إلى الآن .



في هذه القرية تتركز قبيلة البادي ، وهي تنقسم إلى عدة فخائذ ، منهم : المقاليد وهم أولاد محمد بن علي بن محمد بن فهم بن مالك بن مقلود بن سيد بن صقر البادي ، شيوخ هذه القبيلة ، ومنهم أولاد بطي ، وغيرهم كثير ، وممن برز من هذه القبيلة :
الشيخ محمد بن علي بن محمد البادي
والشيخ سعيد بن محمد بن علي البادي
والشيخ علي بن محمد بن علي البادي
والشيخ محمد بن علي بن محمد البادي
والشيخ عبدالله بن علي بن محمد البادي
والشيخ راشد بن علي بن محمد بن علي البادي ، وهو أشهر من برز من هذه القبيلة ، وكان سياسيا محنكا ، استطاع بحكمته وذكائه أن يكون لنفسه وقبيلته هيبة ومكان بين القبائل المجاورة .

هذا وقد انتقل الكثير من أفراد هذه القبيلة في الوقت الحالي إلى ولاية البريمي وإمارة أبوظبي ومدينة العين بدولة الإمارات العربية المتحدة .


==============
1) ، (2) لا أدري هل المقصود هنا قبيلة الساعدي أم السعدي ، لأن القبيلتين كانتا في دوت ، وما زال الكثير من أفراد قبيلة السعدي إلى الآن في بلدة " دوت " .
3) القسم الجغرافي ، الجزء الثاني ، ص 563
4) هو الشيخ سعيد بن سالم بن سعيد بن محمد بن علي بن محمد المقلودي البادي ، من شيوخ البداة في دوت ، له إهتمام بتاريخ قبيلته ومنطقته ، عاصر الكثير من الزعماء والشيوخ في منطقة الظاهرة ، كان من أشد المقربين من الشيخ راشد بن علي البادي .

الثلاثاء، 15 سبتمبر 2009

حدائق ذات أفنان ج1 ( نهاية عام.. وبداية عام جديد)

انقضى العام الهجري.. كأنه طيف خيال.. أو لمح بصر.. وانقضت معه مرحلة من مراحل العمر.. وطويت صفحة من صفحات الحياة.. وهكذا تنقضي الأعوام عاماً بعد عام.. وكذلك تنقضي الآجال على مر الزمان.. قال تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } (الرحمن:26ـ27) .. ونحن لا زلنا نيام.. غرنا التسويف.. وطول الأمل..
نروح ونغدو لحاجاتنا
وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته
وتبقى له حاجة ما بقي
أشاب الصغير وأفنى الكبير
كرُّ الغداة ومرُّ العشي
إذا ليلة أهرمت يومها
أتى بعد ذلك عام فتي

وها هما الليل والنهار.. يدوران ويذهبان.. ولا يعودان.. وعلى عمل المرء يشهدان.. إن هذه الأعوام التي نفرح بانقضائها.. وتلك الأيام والليالي والشهور.. هي في الحقيقة.. محسوبة من أعمارنا.. ماضية بآجالنا..
كم للمنايا في بني آدم
توسع منه تضيق الصدور
فالوقت لا تحدث ساعاته
إلا الردى المحض بوشك المرور
أيامنا السبعة أيسارنا
وكلنا فيها شبيه الجزور
طهرت ثوباً واهياً ثم ما
قلبك إلا عادم للطهور
لو فطن الناس لدنياهم
لا اقتنعوا منها اقتناع الطيور

وحال الدنيا ينطبق عليه قول الله تعالى : { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (الحديد: 20)..
حكم المنية في البرية جار
ما هذه الدنيا بدار قرار
جبلت على كدر وأنت تريدها
صفواً من الأقذار والأكدار
فاقضوا مآربكم عاجلاً إنما
أعماركم سفر من الأسفار

إن العاقل.. من يحاسب نفسه.. قبل أن يحاسبه ربه.. ويقلع عن فعل السيئات.. قبل أن يدركه الممات.. فما يوم تشرق شمسه إلا وينادي : "يا ابن آدم.. إني خلق جديد.. وعلى عملك شهيد.. فاغتنم مني.. فإني لا أعود".. وها هو العام الهجري.. قد انقضى.. فيا ترى أيكون شاهداً لنا.. أم شاهداً علينا؟!!
إذا مرّ بي يوم ولم أستفد هدى
ولم أكتسب علماً فما ذاك من عمري

يقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : " ما ندمت على شيء.. ندمي على يوم.. غربت شمسه.. نقص فيه أجلي.. ولم يزد فيه عملي"..
حياتك رأس المال والعلم ربحه
وأخلاق أشراف بهن تصدر
وموسمك الأيام خلتك حازماً
وإلا فذو التفريط لا شك يخسر
ومن ضيع الأوقات ضاعت حياته
وعاش فقيراً جاهلاً ليس يشكر
ودع غائباً من فائت ومؤمل
فوقتك سيف قاطع ليس يعذر

على المسلم.. أن يستعد لما يأتي من الأيام القادمة.. وعليه أن يعلم.. أن ما تبقى من الدنيا بالنسبة لما مضى.. يشبه ما بقى من عامنا هذا بالنسبة لما مضى منه.. وليكن على استعداد في كل وقت للرحيل.. ليكن في الدنيا كأنه غريب أو عابر سبيل.. إذا أمسى فلا ينتظر الصباح.. وإذا أصبح فلا ينتظر المساء.. وليأخذ من صحته لمرضه.. ومن حياته لموته..
يا ساهياً لاهياً عما يراد به
آن الرحيل وما قدمت من زاد
ترجو البقاء صحيحاً سالماً أبدا
هيهات أنت غداً فيمن غدا غاد

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : <<الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله >>( سنن الترمذي ج4 ص638) .. وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال : يا رسول الله .. أي الناس خير؟.. قال : << من طال عمره وحسن عمله >>.. قال : وأي الناس شر؟.. قال : << من طال عمره وساء عمله >>(المستدرك على الصحيحين ج1 ص 489)..
الأمر جد وهو غير مزاح
فاعمل لنفسك صالحاً يا صاح
كيف البقاء مع اختلاف طبائعٍ
وكرور ليلٍ دائمٍ وصباح
تجري بنا الدنيا على خطر كما
تجري عليه سفينة الملاح
تجري بنا في لج بحرٍ ما له
من ساحل أبداً ولا ضحضاح

أخوتي في الله.. يقول الإمام علي كرم الله وجهه : " من أمضى يومه في غير حق قضاه أو فرض أداه أو مجد بناه أو حمد حصَّله أو خير أسَّسه أو علم اقتبسه فقد عق يومه وظلم نفسه".. فرأس مال الإنسان في هذه الحياة.. ثوان معدودة.. ودقائق محسوبة.. فليستعرض كل واحد منا ما مضى من عمره.. ولينظر ما قدمت يداه.. من خير وشر..
يا من يعد غداً لتوبته
أعلى يقين من بلوغ غد
المرء في زلل على أمل
ومنية الإنسان بالرصد
أيام عمرك كلها عدد
ولعل يومك آخر العدد

فما كان لك من خير.. فلتحمد الله عليه.. ولتطلب من الله قبوله والتوفيق إلى مثله.. وما كان من شر.. فلتبادر بالتوبة.. ولتعجل بالندم.. ولتسرع بالاستغفار.. فإن الحياة فرصة لن تعود.. يقول عز من قائل : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف: 34)..
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها
إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه
وإن بناها بشر خاب بانيها

وآخر الكلام..
حياتك أنفاس تعد فكلما
مضى نفس منها انتقضت به جزءا
فتصبح في نقص وتمسي بمثله
أما لك معقول تحس به رزءا
يميتك ما يحييك في كل ساعة
ويحدوك حاد ما يريد بك الهزءا

حدائق ذات أفنان ج1 ( إني مصاب بفيروس!!!)

لي صاحب من خيرة الأصحاب.. أكتم عنده أسراري ولا أخاف الارتياب.. كأني واضعها في سرداب.. لأنه من أولي الألباب.. الشيطان لا يقدر أن يفتح عنده باب.. وكان إذا ألم بي ألم.. أو اعترضني هم.. فزعت إليه على عجل.. وأنا من الأمر وجل.. فأرتوي بنصحه.. وأمتثل لرأيه.. لأن فيه الحكمة والسداد.. وفيه من جميل النصح والإرشاد..
وإذا تصبك من الحوادث محنة
فالجأ بها نحو الصديق الأوثق
وكان لا يفارقني إلا في المنام.. ولكن فراق جسد لأنه دائماً في الأحلام.. حيث روحي دائماً به متعلقة.. ونفسي لا تقدر أن تبتعد عنه لحظة إلا بمشقة.. واللسان من محبته يهذي به.. والقلب من الوله يلهث بذكره.. وأصبحنا مثالاً للصديقين.. وأفضل الأخوين.. لا تعكر جونا المصائب.. ولا نخاف أن يعيبنا عائب..
ما ضاع من كان له صاحب
يقدر أن يصلح من شأنه
فإنما الدنيا بسكانها
وإنما المرء بإخوانه
ولكن في يوم من الأيام.. بعد أن استيقظت من المنام.. ذهبت كعادتي إلى صديقي.. ورفيق دربي وطريقي.. ولكن هالني ما رأيت .. وآلمني ما سمعت .. فقد تغير صاحبي عن الشكل المعهود.. وصارت نفسه تمل معي القعود.. فكلما أذهب إليه أعرض عني.. وكلما أقبل نحوه هرب مني.. لا أدري ما الذي حل به.. وما الأمر الذي أصابه.. وغير هكذا حاله..
كنا وكانوا بأهنا العيش ثم نأوا
كأننا قط ما كنا وما كانوا
هل أتاه فاسق بنبأ وأخبره أني فضحت سره؟!.. أو أنه قال له إني قد شتمته؟!.. أو توقع مني أني خنت عهده؟!.. أو هتكت ستره؟!..
لأية علة ولأي حال
صرمت حبال وصلك عن حبالي
وعوضت البعاد من التداني
ومر الهجر من حلو الوصال
فإن أك قد جنيت عليك ذنباً
ولم أشعر بقول أو فعال
فعاقبني عليه بأي شيء
أردت سوى الصدود فما أبالي
المهم أنه أصبح عنوانه الصد والهجران.. وصرت من أمره حيران.. فقد أوصد الباب في وجهي.. وأشاح بوجه عن وجهي.. وقال هيهات هيهات يا صاح.. فقد انتهى عصر أيام الملاح.. فهذا فراق بيني وبينك.. لا أريد أن أرى وجهك.. وقد حاولت أن أكتشف الأمر.. واستطلع ما جد من أمر..
لا تحسبنَّ سروراً دائماً أبداً
من سرَّه زمن ساءته أزمان
ولكني لم أفلح.. وفي مسعاي لم أنجح.. فكلما أفتح عنده باب.. أغلق دوني أبواب.. وكلما أتقرب إليه بشبر.. هرب عني بمتر.. فأصابني من كثرة الحزن والهم.. مغص أحدث في بطني ألماً كأني أكلت سم.. لهذا لم أذق طعم النوم.. فشكوت همومي للغراب والبوم.. حيث كانا يقفان أعلى الشجرة.. في ليلة مظلمة غير مقمرة.. بعد أن ساورتني الشكوك والظنون.. والتي صرت من كثرتها أحس أني أتكلم وأنا في النوم.. لكنهم لم يقدرا أن يرشداني إلى حل.. ولم يخبراني ما العمل؟!.. وجئت من عندهم محزون.. وأحسست أنه قد أصابني الجنون.. بعد أن أهلكني كثرة الوسواس.. والذي يقف دائماً بالمرصاد للناس.. وأعياني انشغال الفكر.. لكني استعذت منه بذكر.. وقعدت أبحث عن حل.. حتى عقلي مني قد مل..
صديقك حين تستغني كثير
ومالك عند فقرك من صديق
فلا تنكر على أحد إذا ما
طوى عنك الزيارة عند ضيق
وكنت إذا الصديق أراد غيظي
على حنق أشرقني بريق
غفرت ذنوبه وصفحت عنه
مخافة أن أكون بلا صديق
لقد ساءت العلاقة.. وأصابت عملي الإعاقة.. فجلست في داري حيران.. ولم أذهب حتى مع الجيران.. فتذكرت ما كان بيننا من الود.. وكنا كمثل ساعد ويد.. وكنا نسافر الأسفار.. ونعبر المحيطات والبحار.. ونقطع الفيافي والقفار.. ونقتحم الغابات والأدغال.. ونصعد التلال والجبال.. فيا ليت أيامنا القديمة تعود.. إذن لكانت الفرحة تسود..
وما المرء إلا بإخوانه
كما تقبض الكف بالمعصم
ولا خير في الكف مقطوعتاً
ولا خير في الساعد الأجذم
وتمر الأيام والشهور.. وأنا أبحث عن ما يجلب له السرور.. وفي إحدى المرات وجدته حزيناً.. والوجه منه كالح كئيب.. فاستنتجت أن أحداً من أهله قد مات.. أو أنه كان يفكر في الزمان الذي فات.. فدعوت الله اللطف بحاله.. وأن يحفظه هو وماله.. فاقتربت منه وأنا على وجل.. وكلي خوف من سوء العمل.. ولما رأيته لم يغضب لقدومي.. ولم يعبس لرؤية وجهي.. شجعني على الكلام.. وإخراج ما في عقلي من استفهام.. ودار في فكري..
وكنت أظن أن جبال رضوى
تزول وأن ودك لا يزول
ولكن القلوب لها انقلاب
تزول وأن ودك لا يزول
فقلت له : سلام الله عليك يا خل.. جفاك أبداً لا يحل.. هذه الدنيا غدارة.. فيها أيام سارة وضارة.. ولا تستحق أن نحرق فيها الأعصاب.. ولا أن نمزق من أجلها القلوب..
ولربَّ نازلة يضيق بها الفتى
ذرعاً وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها
فرجت وكان يظنها لا تفرج
واعذرني على صراحتي في الكلام.. لأني في فعلي هذا لا ألام.. مالي كلما أقبلت إليك أعرضت.. وكلما أردت أن أقابلك أدبرت.. فكأني الوباء وتخشى الخطر.. أو كأني رجل خداع لا أومن من المكر.. فماذا دهاك يا صاح؟!!.. ألم تكن بصحبتي مرتاح؟!.. وما هذا الانقلاب العجيب؟!.. وما هذه القسوة والغضب؟!.. بعد أن كنت سهل العريكة لين الجانب.. أسمعت عني خبراً.. فأصابك منه الضجر.. أم ماذا جد من أمر؟!..
فهبني مسيئاً كالذي قلت ظالماً
فعفواً جميلاً كي يكون لك الفضل
فإن لم أكن للعفو منك لسوء ما
أتيت به أهلاً فأنت له أهل
فقال بعد أن أعياه الإلحاح.. وكان من قولي قد ارتاح.. سامحني يا صاحبي الغالي.. فلم يكن يخطر في بالي.. أن أضعك في هذا الموقف المؤلم.. وتوقعت أن هروبي هو الأسلم.. فإني لم أعرض عنك سوءاً فيك.. ولا لذنب قد اقترفته يداك.. وليس بقول ساقه فلان.. ولا بسبب كثرة الخلان.. ولا أصابني منك الملل.. ولا أصيب أحد من الأهل..
إن الصفا في شرب كل مودة
لم يخل من كدر لمن هو وارد
فقلت له : لقد حيرتني معك يا صاح.. ما الذي يجعلك غير مرتاح؟!.. أخبرني على عجل.. فقد بدأت الأمور تصيبني بالملل.. منذ فارقت صحبتي.. فإني أعيش وحيداً في نكبتي.. فأستحلفك بالله أن تخبرني الحقيقة.. ولا تخفي علي لعلي أجد الطريقة..
فكل الحادثات وإن تناهت
فموصول بها فرج قريب
لقد كان هروبي عنك حرصاً على سلامتك.. وتهربي منك خوفاً على صحتك.. والله أنت في قلبي ولك معزة وقدر.. وحبك في القلب يحوي ما عند البشر..
لله إخوان صحبتهم
لا يملكون لسلوة قلبا
لو تستطيع نفوسهم بعدت
أجسامهم فتعانقت حبا
ولكني ابتليت بفيروس.. وعلى إثره أصابني العبوس.. لقد أكل اللحم والعظم.. ومن شدته سد مجرى الدم.. الأجساد منه بالية.. والفؤاد من هوله يصرخ ماليه.. قد صار جسمي إلى الهزال.. وإذا رأيتني تعتقد أني قد أصابني الهبال.. لا أدري ما العمل.. حاولت أن أبحث عن الحل.. لكني لم أجد العلاج.. وعقلي من شدة المرض قد ماج.. ففكرت في الانتحار.. ولكني خفت العار.. وأن يرميني ربي في النار.. ثم فكرت في الاختباء.. حتى لا تعلم بالبلاء.. لكي لا أكدر صفوك.. ولا أوأد جمال ابتسامتك.. فهذا كان سبب هروبي.. ولو لم تطلب مني الإفصاح.. حتى أجعلك ترتاح.. لم أخبرك بمرضي.. وما أعانيه من الآلام التي تسري في جسدي.. فأرجو منك العفو السماح.. عن كل أمر بدر مني وراح.. وبعدما تذكرت قول الشاعر..
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء
إنما الميت من يعيش كئيباً
كاسفاً باله قليل الرجاء
فقلت له : سامحك الله يا خل.. ما هذا العمل الذي لا يحل.. ألهذا الدرجة تكون الصداقة.. لو أخبرتني لساعدتك حسب الطاقة.. أتكون الصداقة في المسرة.. وتنتهي عند وقوع المضرة.. هذه صداقة اللئام..لا يرضاها الإسلام..
ولست بباد صاحبي بقطيعة
ولست بمفش سره حين أغضب
عليك بإخوان الثقاة فإنهم
قليل دون من كنت تصحب
وما الخدن إلا من صفا لك وده
ومن هو ذو نصح وأنت مغيب
والحمد لله على الإنابة.. وخروجك من جو الكآبة.. وأدعو الله بشفائك العاجل.. وأن يبعد عنك الهموم والملل.. فهو يسمع ويجيب.. لكل عبد منيب.. ونصيحتي من الفؤاد لك.. أن لا تعود لمثل ذلك.. فوالله قلبي لا يحتمل فراقك.. وعقلي لا يستطيع هجرانك.. هذا ما أردت أن أقول.. فاعذرني إذا كان عذري مقبول.. وأختم كلامي بالسلام على خير البشر.. وآله وصحبه الكرام البرر.. سبحان رب العزة عما يصفون.. وسلام على المرسلين.. والحمد لله رب العالمين.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
شيئاً لو بكت الدماء عليهما
عيناي حتى تأذنا بذهاب
لن تبلغ المعشار من حقيهما
فقد الشباب وفرقة الأحباب



ملحوظة :
هذا المقال.. تخليداً لذكرى (الكمبيوتر) الخاص بي والذي أصابته المنية بسبب فيروس عضال قضى على مقومات الحياة فيه كما قضى معه على جهد وعمل شاق وملفات لا تقدر بثمن فهي تمثل فترة زمنية من حياتي..

حدائق ذات أفنان ج1 ( قالت : من أنبأك هذا؟!!!)

أخبرها في يوم من الأيام بخبر.. وقال لها : اكتمي هذا عن البشر .. والله لا أفلح إن علم لصوص الخبر.. واحذري من أصحاب المكر.. فمكرهم لا يبقي ولا يذر.. وإياك وعين الحسود.. فإنها ترى مالا يراه المجهر.. فكوني في كتمه مثل الحجر.. لا يسمع ولا يتكلم ولا يبصر.. وإياك والاغترار بالمظهر.. فالأفعى ملمسها ناعم.. ولكن في أنيابها الضرر.. هذه نصيحتي والله بيننا يسمع ويبصر..
فلا يسمعن سري وسرك ثالث
ألا كلَّ سر جاوز اثنين ضائع

فقالت له : لا تخف يا أعز البشر.. فالخبر في بئر ليس له قعر.. ولا تهتم من هذا فإني والله في كتمه مثل القلم الذي انتهى منه الحبر!!.. ففي أمان الله سر.. وفي عملك لا تتأخر..
وأكتم السر حتى عن إعادته
إلى المسرِّ به من غير نسيان
وذاك أن لساني ليس يعلمه
سمعي بسرِّ الذي قد كان ناجاني

وقد أخبرها بذلك بعد صلاة الظهر.. ولم تتجاوز صلاة العصر .. حتى علم أن الخبر قد انتشر .. فذهب إليها غاضباً وليستفسر الخبر.. وليجد الداعي لإخلاف الوعد وما جد في الأمر.. وقد استطار من عينيه الشرر.. وساورته الشكوك والظنون والتي عقله منها قد سكر.. ورأسه قد كاد ينفجر.. وهو في طريقه تذكر قول أحد أصحاب الشعر :
إن النساء كأشجار نبتن لنا
منها المرار وبعض النبت مأكول
إن النساء متى ينهين عن خلق
فإنه واجب لابدًّ مفعول
لا ينصرفن لرشد إذ دعين له
وهنًّ بعد ملائيم مخاذيل
وما وعدنك من شر وفين به
وما وعدنك من خير فممطول

ولما وصل إليها رأته مشتت الفكر.. ولمحت في وجهه الشر.. وعرفت أن الغضب حان وقته لكي ينفجر.. فساورتها الشكوك والظنون لكنها عالجتها بالصبر.. وحاولت بفطنتها أن تعرف ما الذي أوجب الضجر!!.. فعاجلها بالسؤال مستغرباً من فعلها الخطر.. وما سبب خبره على الملأ ظهـر؟!.. وقال لها : هل هكذا في زمانكم يفعل الحُـر؟!.. أم أن الأسرار في يومنا هذا تقدر حسب السعر؟!!.. ثم دار في خاطره قول الشاعر :
إذا المرء أفشى سره بلسانه
ولام عليه غيره فهو أحمق
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه
فصدر الذي يستودع السر أضيق

فقالت له : والارتباك عليها قد ظهر.. ولا تتميز الحروف من نطقها والعرق يقطر من جبينها كأنها في يوم شديد الحَر.. من أنبأك بهذا وبالسر المستتر.. ألديك علم بالكتاب أم أنك تتعامل بالسحر؟!!..
فقال لها : ليس هذا وقت المكر.. وكما تعلمين فإني لا أتعامل بالسحر.. ولكني أقول :
لكل داء دواء يستطب به
إلا الحماقة أعيت من يداويها

فدعي عنك هذا الهذر.. لقد كشف الله خيانتك لشريك العمر.. وفعلتِ ما فيه نكر.. ولا ينفع اليوم اللوم أو العذر.. ولا ينفع الجبر للذي انكسر.. ويا ليتني كنت في القبر.. حتى لا أعلم بأن الذي خانني هو شريك العمر.. ولكن لا تنفع لو ولا يا ليت ولا الحذر من القدر.. لقد هلكت مثل فعلكِ كثير من الأسر.. فتوبي إلى الله من فعلكِ فإنه خير معين لمن تاب واستغفر..
وجنة المأوى تكون مأوى
لمن نهى النفوس عما تهوى
وقلل الكلام فالكلام
أن يكثرن تكثر به الآثام

فقالت : استغفر الله مما قل منه أو كثر.. واعذرني فقد خانني اللسان ولم ينفع الحذر.. والنفس والهوى اللتان توقعان اللبيب في الأسر.. ولم يكن قصدي من عملي هذا أن ألحق بك الضرر.. ولا أتلذذ بفعل الشر.. إنما جهلي وضعف ذاكرتي هو الذي أرداني في الحفر.. فاعذرني فقد سبق السيف العذل.. وإني والله لم أخبر بهذا الأمر إلا قليلاً من البشر؟!!.. وكان في مجلسنا الشيطان قد حضر.. وكما تعلم فالنساء في مجالسهن كثيرات الهذر.. ولم أتوقع بفعلي الأشر.. أن الخبر بهذه السرعة سينتشر.. ولكن..
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب
ولا ينال العلا من طبعه الغضب

فقال : ما أقبحه من عذر.. لقد هلك من فعلكن أولوا البصر.. ثم سألها.. أكل الناس هكذا من أنثى وذكر؟!!.. أم أن الأمور في زماننا هذا قد تغيرت وإني في عصر لا يكتم الخبر.. وأصبح الناس غير مؤتمنين سواء في الحل أو في السفر.. أم أنه قد طمست البصائر وقدت القلوب من حجر.. أواه لقد قضت الخيانات في هذا العصر على الشجر والمدر..
لا تركنن إلى ما لا وفاء له
الذئب من طبعه أن يقتدر يثب

فقالت : أستغفر الله عن كل أمر قد صدر.. ودع عنك اللوامة واقبل مني العذر.. فالله يعطي الثواب للذي قد غفر.. وهذا مقام العائذ التائب عند واسع الصدر..
خذ من خليلك ما صفا
ودع الذي فيه الكدر
فالعمر أقصر من معا
تبة الخليل على الغير

فسامحها للذي قد كان منها قد بدر.. وذكرها بالإله وكيف على الشيطان تنتصر.. وأخبرها بالمواثيق وما بينهم من العهود.. وقال لها : أن الوعد دين على الحر.. وذكرها ببعض آي من السور.. وأن الله عليم ما في النفوس ولو حاول أي إنسان أن يخفي ما في الصدر.. ولم ينسَ أن يذكرها من كلام خير البشـر.. وذكـرها بما جـاء في السيـر.. وذكـرها أيضـاً بقصـص الصالحين لعلها تعتبر.. وحذرها من الصائدين في الماء العكر.. ومن أصحاب اللسان السليط الذين همهم توقيع البشر.. وذكرها بأن حياتهم هذه ليست إلا متاع الغرور لا يسلم منها إلا من كان على حذر.. وحذرها من النار ومن مس سقر.. ولم ينسَ أن يذكرها بالساعة لأن الساعة أدهى وأمر.. فالإنسان في يومها يكون على مشارف الخطر.. فينبأ الإنسان هنالك بما قدم وأخر.. فإن كان قد خالف السميع البصير.. فيقول الإنسان يومئذ أين المفر.. كلا لا وزر.. إلى ربك يومئذ المستقر.. ومأواه جهنم وبئس القعر.. وما للظالمين من نصر.. وأما إن كان قد انتهج منهج الرحيم الخبير.. واتبع مسلك صاحب الكوثر.. وانتهج سيرة أبي بكر وعمر.. فمأواه جنة لا تخطر على قلب بشر.. ولا يتخيلها وهم ولا فكر.. جزاء بما قدم وأخر.. وذكر لها أبياتاً من الشعر:
الصًّمت للمرء حليف السلم
وشاهد له بفضل الحكم
وحارس من زلل اللسان
في القول إن عيًّ عن البيان
فعذبه معتصماً من الخطا
أو سقط يفرط في ما فرطا
إنًّ السكوت يعقب السلامة
فرب قول يورث الندامة
لا شيء من جوارح الإنسان
أحقُّ بالحبس من اللسان
إنًّ اللسان سبع عقور
إن لم يسُسْه الرأي والتدبير

وفي نهاية الأمر قرر أن لا يخبرها بسر يتوقع في إفشاءه خطر.. من مادام له بقية من عمر.. ولو شعر أن عقله من السر يكاد ينفجر.. أو أحس أن قلبه قد تضجر.. ولابد من إخراج ما كان في الصدر.. لأن جسمه على تلك الحالة لن يستقر.. فأحب الأشياء إليه للجبال أن يفر.. وأن يخرج ما كان في صدره من سر.. ولا يطلع أحداً من البشر.. حتى لا يقع مرة أخرى في خطر.. ولا يعني هذا أنه لم يسامحها ولكنه حتى يكون على حذر.. والمؤمن لا يلدغ مرتين من جحر.. متمثلاً بقول الشاعر :
فلا تودعنًّ الدهر سرك جاهلاً
فإنك إن أودعته منه أحمق
وحسبك في ستر الأحاديث واعظاً
من القول ما قال الأديب الموفَّق
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه
فصدر الذي يستودع السِّرَّ أضيق

وفي ختام حديثهم دعوا الله أن يغفر لهم خطاياهم في السر والجهر.. وما تقدم من ذنبهم وما تأخر.. وقالوا في مجمل دعائهم.. ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار.. ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار.. ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار.. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.. إن الله على كل شيء قدير.. وبالإجابة جدير.. نعم المولى.. ونعم النصير..
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي
جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته
بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل
تجود وتعفو منة وتكرما
فلولاك لم يصمد إبليس عابد
فكيف وقد أغرى صفيك آدما


إضاءة :
إن الله سبحانه وتعالى عبر عن الحياة الزوجية باللباس قال تعالى واصفاً ذلك : { هنَّ لباس لكم وأنتم لباس لهن } (البقرة : 187).. واللباس في حقيقته لا يستغني عنه الإنسان في هذه الرحلة الشاقة.. رحلة الحياة.. فهو الذي يحول بينه وبين وقدة الصيف ولفحة الشمس.. وهو الذي يدثره ويبعث الدفء في أوصاله في ليالي الشتاء القارصة.. وهو فوق ذلك يستر تشوهات الجسم وعيوبه بالنسبة لكل منهما فلا تمجهما العيون أو تنفِّر منهما الآخرين..
وهو بالنسبة للمرأة ستر ووقاية أيضاً يستر محاسنها ومفاتنها ويقي جسدها من عيون الرجال المتلصصة ومن في قلوبهم مرض.. وإذا كان هذا بالنسبة للباس .. فماذا بالنسبة للرجل والمرأة في حياتهما الزوجية؟!!..
إن كلاً منهما ستر الآخر.. ستر لأقواله وأفعاله.. وحفظ لأسراره وما يخفيه.. فالمرأة ستر للرجل ووقاية.. عندما يوشك أن تغلبه الإرادة.. والرجل ستر للمرأة وصيانة عندما تغلبها العاطفة ويسيطر عليها الضعف الأنثى.. فمن مقومات وشروط الحياة الزوجية المحافظة على حياتهم وحقوقهم فيما يدور بينهم من أسرار ومواقف فلا ينبغي أن يطلع عليها أي أحد من البشر أو أقرب الناس إليهم..
وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: <<ألا عسى أحدكم أن يخلو بأهله يغلق باباً.. ثم يرخي ستراً.. ثم يقضي حاجته.. ثم إذا خرج حدث أصحابه بذلك!!.. ألا عسى إحداكن أن تغلق بابها.. وترخي سترها.. فإذا قضت حاجتها حدثت صواحبها!!>>.. فقالت امرأة سعفاء الخدين : والله يا رسول الله إنهن ليفعلن.. وإنهم ليفعلون؟!!.. قال: << لا تفعلوا.. فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة على قارعة الطريق.. فقضى حاجته منها.. ثم انصرف وتركها>> فالنهي في الحديث الشريف ينطبق على الرجال والنساء كحد سواء من دون النظر إلى الجنس فقد تجد تارة الرجل هو الذي يكشف أسرار الحياة الزوجية لأصحابه وخلانه وتارة أخرى المرأة هي التي تكشف أسرار الحياة الزوجية لصويحباتها فالجنس لا يدل بالضبط على حفظ الأسرار أو كشفها..
فينبغي أن ينظر الزوجان إلى ما يحدث بينهما.. في داخل بيتهما.. على أنه من الأسرار التي يجب كتمانها.. وخصوصاً الخلافات الزوجية التي تقع بينهما.. لأن معرفة الآخرين بتلك الخلافات قد يؤججها ويؤزمها بدلاً من أن يخففها ويحلها..