الاثنين، 14 سبتمبر 2009

حدائق ذات أفنان ج1 ( الخوارج بين الحقيقة والخيال)

هنا سؤال يطرح نفسه.. الخوارج(1).. هل هم.. خيال وأوهام من نسج الكتاب؟!!.. أم أنهم حقيقة مؤلمة من تأريخنا الماضي؟!..
قد يتبادر في ذهن.. أي قارئ.. أو مستمع.. عندما يقرأ أو يسمع.. كلمة الخوارج.. فإنه يتبادر في الذهن.. تلك الحقبة من الزمن.. في القرن الأول الهجري.. زمن سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.. بعد معركة صفين.. التي دارت رحاها بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان.. وقبول علي التحكيم.. ورفض فئة من جيشه مبدأ التحكيم.. حيث أنهم يرون أنه لا ينبغي لعلي أن يخدع في أمر التحكيم فيقبله ما دام يؤمن بأنه لا يحارب معاوية إلا من أجل الحق.. وحاولوا أن يقنعوا علياً على الرجوع عما اتفق عليه مع معاوية.. ولكن علياً لم يرجع عن شروطه.. وانحازوا عنه إلى حروراء وكانوا اثنى عشر ألف رجل من المقاتلة ومن هنا سميت الخوارج حرورية وكان زعيمهم عبدالله بن الكواء.. وشبث بن ربعي.. وخرج إليهم علي وناظرهم فظهر بالحجة عليهم.. فاستأمن إليه ابن الكواء في ألف مقاتل.. واستمر الباقون على ضلالهم.. وخرجوا إلى النهروان وأمروا عليهم رجلين منهم أحدهما عبدالله بن وهب الراسبي والثاني حرقوص بن زهير البجلي.. فسار إليهم علي بأربعة آلاف مقاتل.. وناظرهم قبل القتال.. وأقام عليهم الحجة.. ووقعت بينه وبينهم حرب النهروان وهزمهم وقتلهم شر قتلة.. وما تلاها بعد ذلك من القرون.. حيث ظهرت فئة من الناس.. تدين في ظاهرها بالإسلام.. لكنها انحرفت عن الطريق القويم.. والصراط المستقيم.. الذي خطه لنا الشارع الكريم.. فسفكت الدماء.. وسلبت الأرواح.. وهتكت الأعراض.. واغتصبت الأموال.. وروعت الآمنين.. ونهبت وسرقت.. وغيرها من المساوئ الذميمة.. والتي يعتبر فاعلها.. خارجاً من دائرة الإسلام وإن ادعاه.. ويتساوى مع أهل الشرك والأوثان.. هذا بالطبع حسب ما أوردته كتب الفرق والنحل وكتب التاريخ..
كذبتم ليس ذاك كما زعمتم
ولكن الخوارج مؤمنونا
هم الفئة القليلة غير شك
على الفئة الكثيرة ينصرونا

وإن كنت أشكك في كثير من هذه الأقوال والادعاءات.. وأشك في كثير من الأخبار والقصص والروايات.. وأشك في مصداقية كثير من الكتب والمصنفات(2).. لأنه في تلك الحقبة المريرة المؤلمة.. انبرت بعض الأيادي المغرضة.. والأقلام المستأجرة.. من أصحاب العقول المشوهة.. والضمائر المتحجرة.. أخذت تشوه الحقائق.. وتبدل في الوقائع.. وتغير في الأقوال.. وتختلق الأخبار والقصص والروايات.. وتضع الأحاديث المكذوبة ضد مناوئيها.. وتلوي أعناق الآيات.. وتزيد وتنقص في الحوادث والوقائع.. وتسجل كل ما يملي لها الهوى والتعصب البغيض.. وما تطلبه منها السلطة الحاكمة الجائرة الظالمة.. فسجلوا بأن المحكمة وأهل النهروان وكل من سلك طريقهم.. وأتبع آثارهم.. وأنتهج منهجهم.. يعتبر خوارج وفئة مارقة من الدين.. وضالة عن الصراط المستقيم.. لأنهم يكفرون بأتفه الأسباب.. ويسفكون دماء المسلمين.. ويقتلون النساء والأطفال ممن لا يوافقونهم الرأي.. ويستحلون أموالهم وأعراضهم.. وتجدهم يختلفون فيما بينهم في أقل أمر.. وأنهم متوحشون همج.. قتله وبدو جفاه.. وكانوا حديثي العهد بالإسلام.. فليست لهم دراية بتعاليمه.. ولا بشرعه وأحكامه.. ولم يكتفِ هؤلاء المرتزقة الحاقدون على الإسلام وأهله.. بأن يلصقوا هذه التهمة في فئة معينة.. وإنما ألصقوا هذا المسمى.. على كل فرقة تناهض الحكم القائم.. على الاستبداد والقسوة والبطش.. والظلم والجور والتعسف..
إني أدين بما دان الشُّراة به
يوم النُّخيلة عند الجوسق الخرب
النافرين على منهاج أولهم
من الخوارج قبل الشكِّ والرِّيب
قوماً إذا ذُكِّروا بالله أو ذكروا
خرُّوا من الخوف للأذقان والركب

فقد يكون الخوارج ـ أقصد الفئة التي لم تستحل دماء المسلمين وأموالهم وإنما سلكت منهج الإسلام قولاً وعملاً ومنهجاً وسلوكاً وتطبيقاً والتي تعرف عند المخالفين بالمحكمة أو أهل النهروان (3)ـ وحسب وجهة نظري.. من الفئات التي ظلمها التأريخ.. وقسا عليهم الزمن.. وظلمهم الأخ والصديق.. أو بسبب حسد من عند أعدائهم.. لما رأوا من استمالة الناس إليهم.. مع ما اتصفوا به من رجاحة العقل وحسن البيان.. وسداد المنطق.. وقوة الحجة.. والنبل والكرم.. والعفة والفضيلة.. والأخلاق العالية الرفيعة.. وشدة عبادتهم وتبتلهم.. وخوفهم من الله.. وصلابتهم في الأمر بالمعروف.. والنهي عن المنكر..
إذا ما الليل أقبل كابدوه
فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا
وأهل الأمن في الدنيا هجوع
لهم تحت الظلام وهم سجود
أنين منه تنفرد الضلوع
وكانوا لا يخافون في الله لومة لائم.. وبسبب ابتعادهم عن الكذب والخيانة.. وعن الغدر والتملق للحكام.. مع ما وصفوا به أيضاً من الصدق والأمانة.. وما اتصفوا به من حفظ العهود والمواثيق.. وغيرها من الصفات الحميدة.. والقيم النبيلة.. والأخلاق الفاضلة..
هم قوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا
أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
بهاليل في الإسلام سادوا ولم يكن
لأولهم يوم المعارك أول
وهذه القيم والأخلاق التي اتصفوا بها لا تنم إلا عن ارتوائهم من رحيق النبوة.. وانغماسهم في حوض الرسالة.. وتقلبهم في أحضان الشريعة.. وذوقهم حلاوة الإيمان.. وبرد اليقين..
إلا تجيئهم فإنهم
رجف القلوب بحضرة الذكر
متأوهين كأن جمر غضا
للموت بين ضلوعهم يسري
لهذا نسبت في حقهم أمور لم يفعلوها.. وأقوال لم يقولوها.. وحاكوا عنهم القصص والخيالات.. والتي ليست من الواقع في شيء .. حتى ينفر منهم الناس.. وبهذا يصبح من السهولة القضاء عليهم.. وإبادتهم من الوجود..
وسائل عنهم ماذا يقدمهم
فقلت فضل به عن غيرهم بانوا
صانوا النفوس عن الفحشاء وابتذلوا
منهن في سبل العلياء ما صانوا
المنعمون وما منوا على أحد
يوماً بنعمي ولو منوا لما مانوا
قوم يعزون إن كانت مغالبة
حتى إذا قدرت أيديهم هانوا
وإن كان بعض الذي قيل عن الخوارج صحيح.. فهي فئة خرجت عن المنهج الذي خطه لهم أسلافهم .. لجهلهم وفهمهم الخاطئ لمبادئ وأفكار ومعتقدات أسلافهم.. وإما بسبب الوضع الذي كان متوتراً في تلك الفترة.. وذلك العصر.. ـ وإن كنت لا أبرئهم أو أعذرهم في تطرفهم وسفكهم دماء المسلمين واستعراض الناس ـ فقد كانت سياسة الأمويين مبنية على الشدة والقسوة.. فكانت سياستهم سياسة بطش وجبروت.. فأطلقوا أيدي عمالهم في الأمصار يقتلون كل معارض لسياستهم.. وكانوا يأخذون بالظنة.. ويعاقبون على الشبهة.. ويقضون بالهوى.. ويقتلون على الغضب.. فكانوا يقتلون كل من يخالف رأيهم.. ومثلوا بالشيوخ والنساء.. حتى أن زياد ابن أبيه كان يعري النساء ويصلبهن بعد قتلهن.. كما قال الشاعر:
إن من أعجب العجائب عندي
قتل بيضاء حرة عطبول
قتلت هكذا على غير جرم
إن لله درها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا
وعلى الغانيات جرُّ الذُّيول
لقد كان ذلك العصر عصراً دموياً.. قلما نجد فرقة أو حزباً سياسياً يوطد دعائم سلطانه في قوم تتناقض آراؤهم وتكثر اختلافاتهم إلا ويستعمل سياسة القتل والبطش والتنكيل.. حتى يخض الجميع لسلطانه..
وقد أظهر الجور الولاة واجمعوا
على ظلم أهل الحق بالغدر والكفر
وفيك إلهي إن أردت مغير
لكل الذي يأتي إلينا بنو صخر
فقد ضيقوا الدنيا علينا برحبها
وقد تركونا لا نقرُّ من الدهر

فالخوارج وبحسب ما لمسناه.. انقسموا إلى فريقين فريق التزم بمنهج أسلافه ـ أهل النهروان ـ من سماحة الإسلام وعدله.. ولم يقاتلوا مخالفيهم والحكومات الجائرة.. إلا من مبدأ الدفاع عن النفس.. وحفاظاً على الدماء والأموال والأعراض.. أو لإظهار حق ودحر باطل ورد المظالم إلى أهلها.. وفريق آخر انتسب إلى الخوارج وهم منهم براء.. فقد التحقوا بالخوارج إما لأغراض ومطامع دنيوية.. وإما لتشويه صورة الخارجين في سبيل الله وحتى يمتنع الناس عن نصرتهم أو التعاطف معهم.. وإما أن يكونوا من أعوان وجواسيس السلطة القائمة وحتى يسهل القضاء على الخارجين عليها بسهولة ويسر.. وحتى يصلوا إلى غرضهم الدنيء.. ومخططهم الخطير.. استحلوا دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم.. واشتدوا على المسلمين.. وعظمت محنتهم.. وأولوا الكثير من آيات الله تعالى ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.. واستعملوا سيوفهم وقتلوا من لا يحل قتله.. ونهبوا الأموال.. واستعبدوا النساء والرجال بحجة أنهم مشركون.. وأنهم كاليهود والنصارى حسب تأويلهم.. ولقد تم لهم ما أرادوا.. وتحقق لهم ما خططوا له.. فقد حكم الناس على الجميع بالكفر.. ولم يمايزوا بين الفريقين.. أو يفرقوا بين الطرفين.. فاستحلوا دمائهم بحجة أنهم خرجوا عن منهج الإسلام.. وحاربوهم دون هوادة أو كلل أو ملل.. واستغلت السلطة الحاكمة هذه الفرصة السانحة.. وهذا الغبش في التصور.. وهذا الجهل في الأحكام.. وأطلقت أبواقها بأن جميع الخارجين عليها هم من الخوارج المارقة تستباح دمائهم.. وكثير من الشواهد والوقائع تثبت ذلك..
تحكموا فاستطالوا في تحكمهم
وعما قليل كأن الأمر لم يكن
لو أَنْصَفُوا أُنصِفُوا لكن بغوا فبغى
عليهم الدهر بالأحزان والمحن
فأصبحوا ولسان الحال ينشدهم
هذا بذاك ولا عتب على الزمن
لقد نشأ الخوارج نشأة إسلامية حقيقية وصادقة.. ولم تكن حروبهم التي خاضوها.. إلا لهدف الرجوع إلى الدين الحق.. في تعاليم الإسلام الأولى على نقاوتها دون ترخص أو التواء..
لله درُّ الشُّراة إنهم
إذا الكرى مال بالطُّلا أرقوا
يرجعون الحنين آونة
وإن علا ساعة بهم شهقوا
خوفاً تبيت القلوب واجفة
تكاد عنها الصُّدور تنفلق
وأتركك عزيزي القارئ مع هذه القصيدة الرائعة.. والتي تعبر عن فكر ومعتقد أهل الحق والاستقامة.. أو ما يسمون عند بعض المناوئين بـ( الخوارج أو المحكمة أو الشراة أو أهل النهروان أو الحرورية).. حتى تتمعن في منهجهم.. وتستضئ من نورهم.. وتقارن بين ما يدعيه المغرضون الحاقدون.. وبين ما هو واقع وحقيقي(4)..
يا رب فاسلكني سبيلهم
ذا العرش واشدد بالتقى أزري
في فتية صبروا نفوسهم
للمـشرفية والقنا السمر
تالله ألقى الدهر مثلهم
حتى أكون رهينة القبر
أوفي بذمتهم إذا عقدوا
وأعف عند العسر واليسر
متأهبون لكل صالحة
ناهون من لاقوا عن النكر
صمت إذا احتضروا مجالسهم
أذن لقول خطيبهم وقر
إلا تجيئهم فإنهم
رجف القلوب بحضرة الذكر
متأوهون كأن جمر غضا
للموت بين ضلوعهم يسري
تلقاهم إلا كأنهم
لخشوعهم صدورا عن الحسر
فهم كأن بهم جوى مرض
أو مسهم طرف من السحر
لا ليلهم ليل فيلبسهم
فيه غواشي النوم بالسكر
ألا كذا خلسا وآونة
حذر العقاب وهم على ذعر
كم من أخ لك قد فجعت به
قوام ليلته إلى الفجر
متأوه يتلو قوارع من
آي القرآن مفزع الصدر
نصب تجيش بنات مهجته
بالموت جيش مشاشة القدر
ظمآن وقدة كل هاجرة
تراك لذته على قدر
تراك ما تهوى النفوس إذا
رغب النفوس دعت إلى النذر
ومبرأ من كل سيئة
عف الهوى ذو مرة شزر
والمصطلى بالحرب يسعرها
بغبارها وبفتية سعر
يختاضها بأقل ذي شطب
عضب المضارب قاطع البتر
لا شيء يلقاه أسر له
من طعنة في ثغرة النحر
كخليلك المختار أذك به
من مغتد في الله أو مسري
خواض غمرة كل متلفة
في الله تحت العثير الكدر
تراك ذي النخوات مختضبا
بنجيعة بالطعنة الشزر
وهم مساعر في الوغى رجح
وخيار من يمشي على الأرض
حتى وفوا لله حيث لقوا
بعهود لا كذب ولا غدر
فتخالسوا مهجات أنفسهم
وعداتهم بقواضب بتر
وأسنة أثبتن في لدن
خطية بأكفهم زهر
تحت العجاج وفوقهم خرق
يخفقن من سود ومن حمر
فتفرجت عنهم كماتهم
لم يغمضوا عيناً على وتر
فشعارهم نيران حربهم
ما بين أعلى السحر والنحر
صرعى فحاجلة تنوبهم
وخـوامع لحمانهم تفري

ولو نظرنا إلى واقعنا المعاصر.. لوجدنا أن وصمة الإرهاب الشبيهة بوصمة الخوارج.. انبرت لها أيضاً بعض القنوات المغرضة.. والجرائد المستأجرة.. من أصحاب العقول المشوهة.. والضمائر المتحجرة.. والفطر المتعفنة.. أخذت تشوه الحقائق.. وتبدل في الوقائع.. وتغير في الأقوال.. وتختلق القصص.. وتحيك الدسائس والمؤامرات.. وتعرض كل ما يملي لها الهوى.. وما تطلبه منها الحكومات الجائرة .. ومن طواغيت وفراعنة وقياصرة الحاضر.. فأخذت تطلق على كل من رفض الهيمنة الغربية.. أو حارب الاحتلال الغاشم.. أو وقف في وجه الاستبداد.. أو قاوم الديكتاتورية.. أو تصدى للطواغيت.. أو كافح سرطان الحرية.. أو لم يعجبه تحكم قوارين المال على رقاب الضعفاء.. أو لم يرتضي سيطرة الطغاة على مقاليد البلاد..
(على قدر أهل العزم تأتي العزائم)
وتأتي على قدر الضعاف الهزائم
وتعلو مكانات الرجال بجدهم
ولا يبلغ العلياء إلا المزاحم
وتوطأ بلدان ويندك صرحها
إذا لم تذد عنها الخفاف الصوارم
ومن لم يكن ضرغامة يدفع الردى
ويحمي حماه تفترسه الضرائم

فالإرهاب كلمة فضفاضة.. يستطيع أي ديكتاتور أو طاغية أو فرعون أن يلبسها أي شخص أو حزب أو هيئة أو منظمة أو دولة.. وعلى آثرها يتم القضاء عليهم بسهولة ويسر.. دون الحاجة إلى سن قوانين.. أو استمالة الرأي العام.. أو إظهار أدلة إثبات تدينهم.. فتحكموا برقاب الناس.. وسيطروا على مدخراتهم.. واستولوا على خيراتهم.. بدعاوى شتى.. وأساليب ملتوية.. وإثباتات زائفة.. وأدلة واهية.. وكم من الأبرياء قد قتلوا بسبب تلك التهمة؟!.. وكم من الأطفال تيتموا؟!.. وكم من الأسر تشتت؟!.. وكم من النساء ترملت؟!.. وكم من الدول ذلت وجوعت؟!.. وكم من الأفراد سلبت حقوقهم وامتهنت كرامتهم؟!..
فقل للعيون الرمد للشمس أعين
تراها بحق في مغيب ومطلع
وسامح عيوناً أطفأ الله نورها
بأهوائها لا تستفيق ولا تعي

فالخوارج والإرهاب كلمتان فضفاضتان يستطيع ـ وكما قلنا ـ أي شخص أن يقتل أو يسجن ويعتقل من يشاء.. أو يحتل دولة ما.. أو يقضي على شعب ما.. أو يستأصل منظمة أو حزب أو هيئة ما.. أو يستولي على مدخرات شعوب ودول ما.. أو يذل ويجوع دول وأفراد.. دون أن يردعه قانون أو شريعة.. أو يحمي أولئك الأبرياء المقهورين اتفاقية أو معاهدة.. أو تنجدهم من براثن الطغاة هيئة أو منظمة.. مثل شريعة الغاب البقاء للأقوى.. وبرغم ما يطلقه أولئك الاستبداديون والدكتاتوريون الطغاة على حملاتهم الشعواء.. من شعارات جميلة براقة خلابة.. مثل الحرية أو نشر الديمقراطية أو نجدة المظلومين أو مساعدة الضعفاء أو أي مسمى آخر فلا يعود على الأفراد المقهورين الضعفاء إلا الموت أو الدمار والخراب والإذلال..

أيفيـد فـي هـذا الزمـان بياني
فأفيـض في قولـي وفـي تبياني
أم أنـها الأهـوال تغمـر مهجتي
فأعيـش فـي الآلام والأشجـان
ماذا أحـدث والجروح خطيـرة
من حقـد طاغيــة وكيـد جبان
أحداث أمـة أحمـد ومصابـها
أدمـى فـؤادي واستثـار لساني
فالمسلمـون بكل أرض حوربوا
في الهند والأقصى وفـي البلقان



الهامش :
1)
الخوارج في السابق كلمة عظيمة كان يفتخر بها كل من ينتسب إليها.. ويتمنى أي شخص أن تنسب إليه هذه الكلمة.. فهي بمعنى أنهم خرجوا في سبيل الله ورسوله ضد الظلم والجور والطغيان.. خرجوا للإظهار حق ودحر باطل ورد المظالم إلى أهلها.. كقول عيسى بن عاتك الحبطي:
كذبتم ليس ذاك كما زعمتم
ولكن الخوارج مؤمنونا
هم الفئة القليلة غير شك
على الفئة الكثيرة ينصرونا
وللرجوع إلى الدين الحق.. في تعاليم الإسلام الأولى على نقاوتها دون ترخص أو التواء.. وشعارهم في ذلك قول الله تعالى: { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ } (النساء: 100).. كما قال سميرة بن الجعد:
فمن مبلغ الحجاج أن سميرة
قلى كل دين غير دين الخوارج
وأقصد من مقالي هذا.. تلك الفئة التي خرجت بعد التحكيم بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رافضين مبدأ التحكيم..
وقد سموا بالخوارج حيث يرون أن لفظ (الخوارج) مشتق من الخروج في سبيل الله واستشهدوا بقول الله تعالى :{ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } (النساء : 100)..
وسموا بالحرورية نسبة إلى حروراء التي خرجوا إليها في أول أمرهم وهي قرية بجوار الكوفة..
وسموا بالمحكمة لانكارهم الحكمين وقولهم : (لا حكم إلا لله)..
وسموا بأهل النهروان نسبة إلى المكان التي دارت فيه المعركة بينهم وبين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه..
وسموا بالشراة لأنهم باعوا أنفسهم لله تعالى لقوله سبحانه وتعالى : { إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }( التوبة: 111).. { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ} ( البقرة: 207).. ولقد كان جلهم من القراء والفقهاء الحريصون على الالتزام بالكتاب والسنة دون مواربة أو إلتواء أو خداع.. وتلك الفئة التي خرجت على أمراء التعسف والظلم والجور من بني أمية لإظهار حق ودحر باطل..
ولكن أصبحت هذه التسمية بعد فترة من الزمن ذماً لا مدحاً بعدما لوا مخالفيهم رؤوس الأحاديث ليصيغوا أقوالهم لهواً في أنفسهم..
فسموهم بالمارقة: وحسب زعمهم لمروقهم من الدين كما يمرق السهم من الرمية.. منه ما رواه جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم الغنائم بالجعرانة فقام رجل فقال أعدل فإنك لم تعدل فقال: <<ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل>> قال عمر رضي الله عنه : دعني أضرب عنق هذا المنافق.. فقال : <<دعه فإن هذا مع أصحاب له أو في أصحاب له يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية>> المنتقى لابن الجارود [1083] ج1 ص272) ..
وعن عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحرورية لما خرجت وهو مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه قالوا لا حكم إلا لله فقال كلمة حق أريد بها باطل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ناساً أني لأعرف صفتهم في هؤلاء يقولون الحق بألسنتهم لا يجاوز هذا منهم وأشار إلى حلقه أبغض خلق الله إليه منهم أسود إحدى يديه حلمة ثدي فلما قتلهم.. قال: انظروا فنظروا فلم يجدوا شيئا.. قال: ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كذبت مرتين أو ثلاثا.. ثم وجدوه في خربة فأتوا به حتى وضعوه بين يديه.. قال: عبيد الله وأنا حاضر ذلك من أمرهم.. وقول علي رضي الله عنه فيهم"(سنن البيهقي الكبرى ج8 ص171)..
وعن سعيد الخدري قال : بينا نحن ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم.. قال : يا رسول الله اعدل فقال :<< ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل>>.. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله ائذن إلي فيه أضرب عنقه.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : <<دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرأون القرآن لا يجوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نضيه وهو قدحه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء قد سبق الفرث والدم آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة ومثل البضعة تدردر يخرجون على حين فترة من الناس>>.. قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتلهم وأنا معه فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتى حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعته" (سنن البيهقي الكبرى ج8 ص171) ..
وهكذا فقد ألصقوا هذا التهمة وهي المروق من الدين بالنفر الذي أنكر التحكيم.. وحاكوا عن حرقوص بن زهير السعدي كثير من الأحاديث والأخبار والقصص والروايات لتثبت أن هذه الفئة بالتحديد هي التي قصدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلامه مثل بذي الثدين .
وليس قصدي في مقالي هذا بمعناها القبيح السائد الآن لدى الكتاب والمؤرخين وكتاب الفرق والنحل ولدى بعض المسلمين وهو الخروج عند الدين ولا المقصود تلك الفئة التي استباحت دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم كالأزارقة والنجدات والصفرية وغيرهم إن ثبت صحة ما روي عنهم.

2)
ذكرت كتب الفرق والنحل أن الخوارج انقسمت إلى عشرين فرقة.. وكل فرقة تخالف الأخرى في بعض تعاليمها.. ومن أشهر فرقهم:

* المحكمة الأولى : وهم أتباع عروة بن حدير وأخوه مرداس ويزيد بن عاصم المحاربي كانوا مع علي بن أبي طالب في صفين.. فلما رأوا اتفاق الفريقين على التحكيم حمل أحدهم على أصحاب معاوية.. وقتل منهم رجلاً.. وحمل على أصحاب علي وقتل منهم رجلاً.. ثم نادى بأعلى صوته ألا أني قد خلعت علياً ومعاوية.. وبرئت من حكمهما ثم أن جماعة ممن كانوا مع علي في حرب صفين استمعوا منه ذلك الكلام واستقرت في قلوبهم تلك الشبهة.. وبعد ان عاد علي إلى الكوفة انشقوا عنه وذهبوا إلى حروراء وكانوا اثنى عشر ألف رجل من المقاتلة ومن هنا سميت الخوارج حرورية.. وكان زعيمهم يومئذ عبدالله بن الكواء وشبث بن ربعي.. وخرج إليهم علي وناظرهم فظهر بالحجة عليهم.. فاستأمن إليه ابن الكواء في ألف مقاتل.. واستمر الباقون على ضلالهم.. وخرجوا إلى النهروان وأمروا عليهم رجلين منهم أحدهما: عبدالله بن وهب الراسبي.. والثاني: حرقوص بن زهير البجلي.. وكان يلقب بذي الثدية.. والتقوا في طريقهم إلى النهروان برجل رأوه يهرب منهم.. فأحاطوا به وقالوا له: من أنت؟ قال : أنا عبدالله بن خباب بن الأرت.. فقالوا له : حدثنا حديثاً سمعته عن أبيك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : سمعت أبي يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :<< ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم.. والقائم خير من الماشي.. والماشي خير من الساعي.. فمن أستطاع أن يكون مقتولاً فلا يكون قاتلاً>>.. فقتله رجل من الخوارج.. كما قتلوا ولده وجاريته أم ولده.. فلما علم علي بن أبي طالب سار إليهم بأربعة آلاف مقاتل.. وأقام عليهم الحجة.. واستأمن إليه منهم يومئذ ثمانية آلاف.. وقاتل منهم أربعة آلاف.. ونصر الله علياً عليهم وقتلهم شر قتلة.. ولم يفلت منهم غير تسعة أنفس.. ذهب منهم رجلان إلى سجيستان.. ورجلان إلى اليمن.. ورجلان إلى عمان.. ورجلان إلى الجزيرة.. ورجل إلى تل موزن.. ومن أفكارهم ومعتقداتهم أنه يكفر المسلم في اعتقادهم بارتكاب معصية ما.. ودون تفريق بين معصية وأخرى.. أو صغيرة وكبيرة.. حتى ولو أنزلق إليها خطأ أو بدافع أجتهادي.. كأن أجتهد فأخطأ فهي خطيئة يكفر صاحبها.. وغيرها من الآراء والفرق التي نسبت إليهم..

* الأزارقة : وزعيمه نافع بن الأزرق وانتهت زعامتهم إلى قطري الفجاءة وكان نفوذهم بالقرب من البصرة وبفارس وكرمان وهذه الفرقة هي أكثر فرق الخوارج عدداً وأعظمها قوة وأشدها تطرفاً وتصلباً وقد قضى عليهم المهلب بن أبي صفرة ومن أقوالهم : إن من أقام من المسلمين في دار الكفر فهو كافر ويرون قتال النساء والأطفال ويحتجون بقول الله تعالى : { وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} ( نوح: 26) وبالتالي يباح استرقاق مخالفيهم.. ويباح قتل من قعدوا عن القتال.. ويعتبر أطفال مخالفيهم في النار.. ولا يقرون حد الرجم ويقولون ليس في القرآن إلا حد الجلد للزاني والزانية.. وغيرها من الآراء والفرق التي نسبت إليهم..

* النجدات : وزعيمه نجدة بن عامر وكانوا باليمامة والبحرين وحضرموت وقد انشقت هذه الفرقة عن الأزارقة وانتهت على يد عمر بن عبدالله بن معمر قائد الحجاج . خالفوا الأزارقة في تكفير قعدة الخوارج واستحلال قتل الأطفال.. كما خالفوهم في حكم أهل الذمة الذين يكونون مع مخالفيهم حيث قالوا بإباحة دمائهم كما أبيحت دماء من يعيشون في كنفهم من المسلمين.. ويرون أن أقامة إمام ليست واجباً شرعياً بل هي واجب وجوباً مصلحياً.. والذي تفردوا به أنهم قالوا إن المخطئ بالجهل يعذر فمن استحل شيئاً من طريق الاجتهاد مما هو محرم فهو معذور على جهله وقالوا : ومن خاف العذاب على المجتهد المخطئ في الأحكام حتى تقوم عليه الحجة فهو كافر.. وقالوا : إن أصحاب الحدود المذنبين منهم غير خارجين من الإيمان والمذنبين من غيرهم كفار وقالوا : لا ندري لعل الله يعذب المؤمنين بقدر ذنوبهم في غير النار وقالوا : من أصر على نظرة محرمة أو كذبة فهو مشرك ومن زنى أو سرق غير مصر فهو مسلم.. وغيرها من الآراء والفرق التي نسبت إليهم..

* الصفرية : وزعيمهم عبدالله بن الصفار وزعم قوم أن الذي نسبوا إليه هو زياد بن الأصفر وهم يقولون : إن كل ذنب مغلط كفر وشرك وكل شرك كيادة للشيطان والصفرية يجيزون مناكحة المشركين والمشركات وأكل ذبائحهم وقبول شهاداتهم ومواريثهم ويحتجون بأن النبي صلى الله عليه وسلم زوج بناته من المشركين في دار التقية وغيرها من الآراء والفرق التي نسبت إليهم..

* العجاردة : وهم أتباع عبدالكريم بن عجرد.. وكان عبد الكريم من أتباع عطية بن الأسود الحنفي.. الذي خرج على نجده.. وذهب بطائفة من النجدات إلى سجستان.. وأنهم لهذا قريبون من منهاجهم من النجدات.. أذ هم انبعثوا من أصل نحلتهم.. ومن آرائهم يجب البراءة عن الطفل حتى يدعى إلى الإسلام.. ويجب دعاؤه إذا بلغ حتى يقر بدين الإسلام.. لا يرون وجوب الهجرة إليهم بل يستحبونها ويعدونها مفضلة.. لا يستبيحون أموال مخالفيهم ولا يأخذونه فيئاً إلا إذا قتلوه.. ولا يقتل من لا يقاتل.. ينكرون كون سورة يوسف من القرآن ويزعمون أنها قصة من القصص.. قالوا لا يجوز أن تكون قصة العشق من القرآن.. يجيزون نكاح بنات البنين.. وبنات الأخوة.. وبنات بني الأخوة.. ويقولون : إن الله حرم البنات وبنات الأخوة وبنات الأخوات.. وغيرها من الآراء والفرق التي نسبت إليهم..

* البيهسية: وهم أصحاب أبي بيهس هيصم بن جابر.. ومن آرائهم أنه زعم أن لا يسلم أحد حتى يقر بمعرفة الله تعالى.. ومعرفة رسله.. ومعرفة ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام.. والولاية لأولياء الله تعالى.. والبراءة من أعداء الله.. والإيمان عنده أن يعلم كل حق وباطل.. وأن الإيمان هو العلم بالقلب دون القول والعمل.. وغيرها من الآراء والفرق التي نسبت إليهم..

* الإباضية : أصحاب عبدالله بن أباض الذي خرج أيام الدولة الأموية وكان معاصراً لمعاوية بن أبي سفيان وعاش إلى أواخر أيام عبدالملك بن مروان وكان لهذه الطائفة دولة في عمان جنوب شرق جزيرة العرب وفي المغرب العربي ومن أفكارهم ومعتقداتهم: أجمعت الأباضية على القول بإمامة عبدالله بن أباض.. وافترقت فيما بينها فرقاً.. يجمعها القول بأن كفار هذه الأمة ـ يعنون مخالفيهم من هذه الأمة ـ براء من الشرك والإيمان.. وأنهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين ولكنهم كفار.. وأجازوا شهادتهم.. وحرموا دمائهم في السر واستحلوها في العلانية.. وصححوا مناكحتهم والتوريث منهم.. وزعموا أنهم في ذلك محاربون لله ولرسوله لا يدينون دين الحق.. وقالوا باستحلال بعض أموالهم دون بعض والذي استحلوه الخيل والسلاح فأما الذهب والفضة فإنهم يردونها على أصحابها عند الغنيمة وقالوا إن الواجب أن يستتيبوا من خالفهم في تنزيل أو تأويل.. فإن تاب وإلا قتل.. وقالوا من زنى أو سرق أقيم عليه الحد ثم أستتيب فإن تاب وإلا قتل.. ليس من جحد الله وأنكره مشركاً حتى يجعل معه إلهاً غيره.. وغيرها من الآراء والفرق التي نسبت إليهم..

هذا ما ذكرته كتب السير والفرق والتاريخ عن الخوارج وهذا ما ذكره المخالفون لهم ومناوئيهم بغض النظر عن صحة ذلك أو خطأه وهل استقوا معلوماتهم والتي ذكروها في كتبهم من مصدر موثوق نزيه وصادق أم من مدلس كذاب تغذى بالحقد وتشبع بالتعصب الأعمى.. ثم هل استقوا تلك المعلومات من مخالفيهم وأعدائهم ومناوئيهم أم من كتب الخوارج وأقوال زعمائهم.. وهل تدخلت العاطفة والهوى والمذهبية البغيضة في الكتابة أم ألجمت بالنزاهة والحيدة وتحكم العقل عند كتابة السطور..

3)
لقد خلط كثير من كتاب الفرق والمقالات وكتاب الملل والنحل وكتاب التاريخ بين المحكمة وأهل النهروان وهم أسلاف الأباضية ولقد سموا بالمحكمة لرفضهم تحكيم الرجال في دين الله اعتماداً على قوله تعالى :{ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} ( يوسف: 40 ) هم الذين قالوا لا حكم إلا لله وذلك حين اتفق الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ومعاوية بن أبي سفيان على التحكيم في النزاع الواقع بينهم في موقعة صفين في العراق.. والتحكيم خدعة من معاوية وعمرو بن العاص قبلها الإمام علي بن أبي طالب بإرغام من منافقي أصحابه ولما رأى صالحوهم ذلك أنكروا وقالوا هذا أمر حكم الله فيه من قبل وهو قتال الفئة الباغية ولا حكم فوق حكم الله فقالوا هذه المقالة المشهورة : ( لا حكم إلا الله ) وخرجوا عن علي بعدما كانوا أنصاره وخلصاءه في قصة مشهورة في السير .
وأول من أنكر التحكيم وقال بهذا عروة بن حدير التميمي وهو من رجال النهروان وسيفه أول سيف سُل من سيوف أباة التحكيم وحضر حرب النهروان فكان أحد الناجين منها وعاش إلى زمن معاوية فأتشهد في أيام عبيدالله بن زياد حيث قتله سنة 58 هـ الموافق 678م . ومن أشعارهم قول عمرو بن ذكينة الربعي:
وإن لحقت بقوم كنت أوحدهم
في جور سيرتهم فالحكم لله
ومن ذلك قول سميرة بن الجعد منادياً بأن الحكم لله وحده ورافضاً حكم عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري فيقول :
ينادون للتحكيم بالله أنهم
رأوا حكم عمرو كالرياح الهوائج
وحكم ابن قيس مثل ذلك فأعصموا
بجبل شديد المتن ليس بناهج
ومن العجب العجاب أن أصحاب الملل والنحل وكتاب الفرق والتاريخ ينسبون إلى الخوارج أشياء تنافي الإسلام ثم يعرجون إلى الأباضية ويزجونهم بهم زجاً في أتون الخوارج شاءوا أم أبوا ثم بعد ذلك يخففون من حدة قسوتهم لما لم يجدوا مستنداً أو دليلاً جلياً دامغاً يثبت هذا الإدعاء لوا أعناق جملهم وقالوا : إلا أنهم أخف وأقل ضرراً أو أقرب إلى الاعتدال أو إلى المذاهب السنية رغم أنه لا يوجد في كتب التأريخ والفرق أن الأباضية أشترك مع الخوارج في الحروب إلا عندما أتحدت كلمتهم في الدفاع عن مكة المكرمة ووقفوا مع عبدالله بن الزبير في وجه طواغيت بني أمية وخوفاً أن تستباح حرماتها كما أستبيحت حرمات المدينة المنورة وما عداها فهناك حروب طاحنة دارت بينهم سواء في المشرق أو المغرب لما خالفوا منهج الإسلام واستباحوا دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم وكتب التاريخ شاهدة على ذلك لمن أراد الإنصاف أو كانت بغيته الحق.. أما ما عداه فلم يكن هناك كتاباً أو أثارة من علم تجمع الأباضية مع الخوارج سواء إنكارهم التحكيم ورأيهم في الإمامة أنها لا تنحصر في قريش إذ كل مسلم صالح لها إذا ما توفرت فيه الشروط.. ومرتكب الكبيرة كافر ولا يمكن في حال معصيته وإصراره عليها أن يدخل الجنة إذا لم يتب منها.. وهذا من حق أي مذهب أن يجتهد وتبع الحق والدليل بغض النظر من أتى به ولو كان من المخالفين في الرأي أو المعتقد فهذا هو منهج الإسلام وروحه لمن لم يعميه التعصب عن أتباع الحق .
إن الإباضية فرقة إسلامية عرفتها الساحة الإسلامية قبل أن تعرف بهذا اسم لأنها فرقة إسلامية نشأت في ظل الكتاب والسنة أثر بعض التطورات السياسية التي عرفها التاريخ الإسلامي في عهد الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه .
والإباضية نسبة إلى الإمام عبدالله بن أباض التميمي أحد الزعماء السياسيين البارزين الذين انشقوا عن الخوارج عندما رأى منهم ما لا يتماشى مع سماحة الإسلام وقد ظهرت هذه التسمية لأول مرة في العصر الأموي ولعل هذا كان في عهد عبدالملك بن مروان الذي كانت له مراسلات تاريخية معروفة مع الإمام عبدالله بن أباض أما التسمية التي أطلقها الإباضية على أنفسهم فهي ( أهل الدعوة ) إيماناً منهم بأن الإسلام رسالة ودعوة لا تتوقف وقد اشتهر ابن أباض بمعارضته الشديدة للسياسة الجائرة التي كان الأمويون يتسلطون بها على رقاب الناس كما عرف أيضاً بمواقفه الحازمة ضد الخوارج حيث كان يجادلهم ويبين تطرفهم ويتبرأ من أعمالهم كما تشهد بذلك النصوص التاريخية مما يوضح لكل منصف نزيه انقطاع كل صلة بين مبادئ الخوارج وبين مبادئ الإباضية .
أما الإمام الحقيقي للإباضية فهو الإمام جابر بن زيد الأزدي المولود سنة ( 21 هـ ) والمتوفي سنة ( 93 هـ ) على أرجح الأقوال وبهذا يكون الذين ينتسبون إليه ويأخذون علمهم ودينهم عن طريقة أول المذاهب الإسلامية نشوء والإمام جابر بن زيد تابعي من أفاضل التابعين ومشاهيرهم أخذ العلم عن كبار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكفي تتلمذه المباشر لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعبدالله بن عباس بحر الأمة وفقيهها بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومن تلامذته الذين تلقوا العلم ورووا عنه الأحاديث الصحاح منهم : قتادة شيخ البخاري وأيوب وابن دينار وضمام بن السائب وحيان بن الأعرج وأبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة وعنه روى الربيع بن حبيب مسنده المشهور في الحديث..

4)
ومن منا لا يذكر تلك الخطية العصماء التي خطبها أبو حمزة الشاري رحمه الله في أهل المدينة عندما عابوا عليه بأن أصحابه جلهم من الشباب فقال رداً عليهم وواصفاً أصحابه: "وقد بلغني مقالكم في أصحابي وما عبتموه من حداثة أسنانهم ويحكم! وهل كان أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وآله المذكورون بالخير إلا أحداثاً شباباً.
شباب والله مكتهلون في شبابهم غضيضة عن الشر أعينهم ثقيلة عن الباطل أرجلهم أنضاء عبادة قد نظر الله إليهم في جوف الليل منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن كلما مر أحدهم بآية من ذكر الله بكى شوقاً وكلما مر بآية من ذكر النار شهق خوفاً كان زفير جهنم في أذنيه.
قد أكلت الأرض جباههم وركبهم ووصلوا كلال الليل بكلال النهار مصفرة ألوانهم ناحلة أجسامهم من طول القيام وكثرة الصيام أنضاء عبادة موفون بعهد الله منجزون لوعد الله.
قد شروا أنفسهم حتى إذا التقت الكتيبتان وأبرقت سيوفهما وأشرعت رماحهما لقوا شبا الأسنة (حدها) وشائك السهام وظبات السيوف ينحورهم ووجوههم وصدورهم فمضى الشاب منهم حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه واختضبت محاسن وجهه بالدماء وعفر جبينه بالثرى وانحطت عليه الطير من السماء وتمزقته سباع الأرض.
فكم من عين في منقار طائر طالما بكى صاحبها في جوف الليل من خوف الله وكم من وجه رقيق وجبين عتيق قد فلق بعمد الحديد"
ثم بكى وقال: "آه آه آه على فراق الإخوان رحمة الله على تلك الأبدان وأدخل الله أرواحهم الجنان"
يقول الشيخ محمد شحاته أبو الحسن رحمه الله واصفا أبو حمزة الشاري وأصحابه:" لقد رباهم على ما ربى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ... العقيدة الإيمان التضحية..
هذه هي مقومات الرجولة الحقة ركائز الإيمان التي تجعل المؤمن يلقي كل شيء خلفه ليكون رضوان الله ورسوله نصب أعينهم وليكون الموت في سبيل الله أسمى أمانيهم.. إنه وصفهم فصدق ووفى وإنك لتتمثل تلك الصور الرائعة عن صفة رجاله فتتذكر صور العارفين بالله الذين ذاقوا حلاوة الحب في الله فاصفرت الأبدان وانهمرت الدموع من خشية الله واتجهت همتهم إلى الوفاء بعهد الله وعزمهم على إنجاز ما وعدوه : {يقاتلون ويقتلون} "(المختار بن عوف القائد الداعية ص83 ـ 85).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق