الخميس، 17 سبتمبر 2009

حدائق ذات أفنان ج1 ـ الرسائل : 2) (رسالة إلى من أحببت)

الرسالة الثانية:
رسالة إلى من أحببت :

الحمد لله الذي تتحير دون إدراك جلاله القلوب والخواطر.. وتدهش في مبادئ إشراق أنواره الأحداث والنواظر.. المطلع على خفيات السرائر.. العالم بمكنونات الضمائر.. مقلب القلوب.. وغافر الذنوب.. وساتر العيوب.. ومفرج الكروب.. ثم الصلاة والسلام على سيد المرسلين.. وخير الأنام أجمعين .. محمد بن عبدالله الأمين.. وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين.. أما بعد :
حاولت إخفاء الذي بجوانحي
فتخونني نار الهوى بملامحي
ويخونني شوقي وفرط تولُّهي
وشرود أفكاري وأوب نوائحي
ويخونني صمتي وهاجس مهجتي
وشحيح صبري واحتراق جواربي
ويخونني ترديد آهات الهوى
في ثغر أشعاري ونغم قرائحي
لم أستطع إلجام نفسي عن منى
تختال بين مشاعري ومسارحي
تحية طيبة مباركة من الأعماق.. مملؤة بالشوق والحب والإخلاص.. معطرة بشذا رياحين الجنان.. ومبعوثة عبر نسائم الصباح.. إلى من أحببت..
وكان فؤادي خالياً قبل حبكم
وكان بذكر الخلق يلهو ويمرح
فلما دعا قلبي هواك أجابه
فلست أراه عن فنائك يبرح
رميت منك إن كنت كاذباً
وإن كنت في الدنيا بغيرك أفرح
فإن شئت واصلني وإن شئت لا تصل
فلست أرى قلبي لغيرك يصلح
إلى من شغلت بالي وتفكيري.. وألهبت مشاعري وأحاسيسي.. وحركت سكوني ووجداني..
لقد دب الهوى لك في فؤادي
دبيب دم الحياة إلى العروق
فبعثتني إلى الحياة بعد الممات.. ومن اليأس إلى الأمل.. ومن القنوط إلى التفاؤل.. ومن الكآبة إلى السعادة.. ومن الخمول والكسل إلى الجد والنشاط.. ومن ظلمة المساء إلى إشراقة الصباح.. ومن جحيم الدنيا إلى جنة الآخرة.. ومن تعاسة الأخوة إلى حضن الأحبة..
وأُشرب قلبي ومشى بها
كمشي حميّا الكأس في عقل شارب
ودب هواها في عظامي وحبُّها
كما دبَّ في الملسوع سمُّ العقرب
إلى من طهرتني من أدران الدنيا وملذات الحياة.. وغسلت قلبي من الحقد والحسد والغل.. ونظفت عقلي من التخيلات والأوهام والأفكار الفاسدة .. وأزالت من كاهلي ثقل الهموم والأحزان.. وعوضتني بالعفة والطهر.. والقناعة والفكر.. والسعادة والسرور.. وأيقظت فيَّ روح العفو والتسامح والمغفرة..
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد
ذخراً يكون كصالح الأعمال
إلى من أمدتني بالقوة بعد الضعف.. والعز بعد الذل.. والتفاؤل بعد القنوط.. واليقظة بعد السبات.. والحب والحنان والشوق بدلاً من الكره والحقد والبغض والحسد..
لما عفوت ولم أحقد على أحد
أرحت نفسي من هَمِّ العداوات
إني أحيِّي عدوِّي عند رؤيته
لأدفع الشَّرَّ عنِّي بالتحيات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه
كما إن قد حشى قلبي مودات
إلى من علمتني أن الحياة جهاد وكفاح.. ونبل وكرم.. وعزة ووقار.. وتضحية وإثار.. وصبر ويقين..
إن الأمور إذا اشتدت مسالكها
فالصبر يفتح كل ما رتجا
لا تيأسن وإن طالت مطالبه
إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
إلى من علمتني أن الدنيا مثل البغي تُزين وتُجمل نفسها حتى تغري فريستها ولا يسلم منها إلا الشريف العفيف والورع التقي.. ونبهتني بأن الدنيا لا تكون للإنسان كما يريد وإنما فيها الفرح والسرور.. وفيها الحزن والألم.. وبها السار والضار.. والإيسار والإعسار.. وفيها الإخفاق والنجاح.. فيها الفوز والخسارة والنصر والهزيمة.. وفيها الخير والشر.. والصلاح والفساد.. ومن رضي بقضاء الله وقدره هانت عليه الصعاب.. وذكرتني أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.. فعلاما نتحارش ونتنـازع عليها ؟!!.. وعلمتني أن الدنيـا مزرعة وحصادها في الآخرة.. وذكرتني بأنها دار ممر والآخرة دار مقر..
حكم المنية في البرية جار
ما هذه الدنيا بدار قرار
إلى من أيقظت فيَّ روح التقوى والإيمان اللذين يعصماني من الوقوع في الفواحش والمحرمات والتمرغ بأوحالها..
خير أيام الفتى يوم نفع
واصطناع الخير أبقى ما صنع
ما ينال الخير بالشر ولا
يحصد الزارع إلا ما زرع
إلى من علمتني بأن شريعة الإسلام الخالدة إنما قد جاءت لأجل أن يعيش المرء قوياً أبياً.. وعزيزاً كريماً.. غير متلبس بشيء من القاذورات والأنجاس.. ولا منغمس في الأوحال والأوساخ.. والتي تحط من قدره.. وتنزله من مكانته السامقة.. وتضعه في منزلة الحيوانات والمخلوقات الوضيعة.. فلا يركع إلا للذي خلقه.. ولا يستجدي إلا من الذي رزقه.. ولا يخضع إلا للذي بيده الأمر والمنتهى..
فدع عنك فضلات الأمور فإنها
حرام على نفس التقي ارتكابها
ومن يحمد الدنيا لشيء يسره
فسوف لعمري عن قليل يلومها
إذا أدبرت كانت على المرء حسرة
وأن أقبلت كانت كثيراً همومها
إلى من علمتني بأن الدعوة طريق مفروش بالحجارة والأشواك.. وليس مفروشاً بالأزهار والورود.. ونصحتني بأنه على الداعية الصبر والجلد والتحمل.. والصدق في القول والعمل.. والصدر الرحب.. ويكون قدوة للناس في خلقه ومعاملته.. في مخبره ومظهره.. في قوله وفعله.. في عمله وسلوكه.. حتى يكون عمل الداعية تبعاً لما يدعو إليه.. ويجد بعد ذلك آذاناً صاغية لما يدعو إليه..
إن عبت يوماً على قوم بعاقبة
أمراً أتوه فلا تصنع كما صنعوا
إلى من علمتني أن الأخوة ليست كلمة فقط تقال.. أو رمزاً يرمز له.. أو شعاراً يوجه.. أو طريقة تتبع.. وليست من أجل مال أو منصب.. أو نسب أو سلطه.. إنما هي في ذات الله سبحانه وتعالى.. وما عداها فهي أخوة جوفاء لا طائل منها..
أخلاء الرخاء هم كثير
ولكن في البلاء هم قليل
فلا تغررك خلَّة من تؤاخي
فما لك عند نائبة خليل
وكلُّ أخ يقول أنا وفيٌّ
ولكن ليس يفعل ما يقول
سوى خلٍّ له حسب ودين
فذاك لما يقول هو الفعول
إلى من علمتني بأن الإنسان بلا حب كالجسد بلا روح.. أو كالغيمة بلا مطر.. أو كالسمكة بلا ماء..
لقد جرى الحبُّ مني
مجرى دمي في عروقي
إلى من أتمنى وصلها ولكن أبعدني عنها القدر؟!!.. وظلمني الأخ والصديق.. وقسا عليَّ الحبيب.. وهجرني الخليل.. وحاربني الأهل..
وعمَّا قليل ينتهي الأمر كلُّه
فما أول إلا ويتلوه آخر
وبرغم ذلك سوف أواجه الصعاب.. والجبال الراسية.. والرياح العاصفة.. والبحار الهائجة.. والقلوب المتحجرة.. والعقول القاسية المتصلبة.. والأعاصير العاتية.. والزلازل المدمرة.. والبراكين الثائرة..
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها
فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
وبرغم ذلك سأواجه سهام الحاسدين.. ورماح الحاقدين.. وسيوف النمامين.. ودروع المنافقين.. وشراك الكائدين.. وأسلحة الخائنين..
إن العرانين تلقاها محسدة
ولن ترى للئام الناس حساداً
وبرغم ذلك سأواجه الآراء الفاسدة.. والشبه الكاسدة.. والحيل الخبيثة.. وأوهام الضلالات.. وعلل المنافقين.. سأواجه بكل صبر وتحمل في سبيل عهدنا.. وسأورثهم الذل والحقارة والهوان..
إلى الطائر النجم انظري كلَّ ليلة
فإني إليه بالعشية ناظر
عسى يلتقي طرفي وطرفك عنده
فنشكو إليه ما تكن الضمائر


يا من أحببت.. إن كلماتك العظيمة أمدتني بالقوة والإصرار.. وبسماتك الوضاءة أمدتني بالأمل والإشراق.. وحياؤك الجليل أمدني بالتواضع والتفاؤل.. وقسمات وجهك البريئة أمدتني بالمحبة والعطف والحنان.. وإصرارك القوي أمدتني بالعزيمة والتحدي.. وتفاؤلك الصادق أمدني بالصدق والإخلاص.. ونظارة وجهك المشرق أمدني بالصبر والحكمة.. ومن حبي لك أحببت نفسي كل ما هو صلاح وكل الصالحين..
أحب الصالحين ولست منهم
لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي
ولو كنا سواء في البضاعة

في عصر التلون والتشكل.. عصر التغير والتحزب.. عصر الكلمات الرنانة الجوفاء.. عصر الأشكال البراقة الخداعة.. عصر التبجح والتفسخ من القيم والأخلاق.. عصر الأنانية وحب الذات.. عصر حب الظهور والتكبر والغرور.. عصر الماديات والملذات والشهوات.. عصر البقاء للأشرس والأظلم والقاسية قلوبهم.. عصر الأفاعي والحرباء.. عصر الميوعة والعري والتميع من القيم والأخلاق.. عصر الانحلال والضياع.. عصر المكائد والدسائس..
من لم يكن عنصره طيِّباً
لم يخرج الطَّيِّب من فيه
كلُّ امرئ يشبهه فعله
وينضح الكوز بما فيه

لقد تغيرت فيهم الفطرة.. وتميعت الأخلاق.. وانحلت القيم والمبادئ.. وتبدلت الأفكار.. وأصبحوا يأكلون لحم أخيهم حياً حتى قبل أن يكون ميتاً ؟!!..
وليس الذئب يأكل لحم ذئب
ويأكل بعضنا بعضاً عياناً
وأصبحت القلوب منتعشة بالحقد والحسد.. والعقول منتعشة بالبغضاء والغل.. والأفكار متشبعة بالإفساد والآراء والأفكار الهدامة.. والسلوكيات منحرفة عن الطريق القويم الذي خطه رسولنا الكريم.. وأصبح هؤلاء مثل البالون في الضخامة والحجم ولكنهم قد تقضي عليهم إبرة صغيرة!!.. والإنسان في ذلك العالم منحل من جميع القيم والأخلاق.. ويتقمص عدة شخصيات.. ويتنكر بعدة أزياء.. حتى لا ينكشف زيفه وبهتانه.. أو ينكشف سره وخداعه.. وقد ينخدع فيه الكثير.. وينساق إلي خزعبلاته العديد.. وينجر إلى أوهامه الكثير.. من محبي الظهور.. وعبدة الشهرة والزيف الكاذب.. ولكن ما هي الفائدة التي كانوا يرجونها؟!.. إنها العظمة وحب الظهور.. والتسلط والرياء والسمعة..
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله
وأجسادهم دون القبور قبور
وإن امرأ لم يحيى بالعلم قلبه
فليس له حتى النشور نشور

إي والله.. إنها لحالة يائسة.. حالة لا يطيقها من يرحم نفسه.. ولا يريدها من كان في رأسه مسكة من عقل.. فكيف يرضى فرد أن يعيش حالة الضيق والاضطراب؟!!.. فلا تهنأ نفسه.. ولا يستقر فؤاده.. ولا يهدأ باله.. ولا تنعم عينه.. ولا هو بمسرور في حياته وبين أهله وأصحابه.. وما ذلك إلا لأنه رضى حياة الذل والهون.. بابتعاده عن منهج الله.. وارتكابه ما حرم الله..
يا من يعانق دنيا لا بقاء لها
يمسي ويصبح في دنياه سفَّارا
هلا تركت لذي الدُّنيا معانقة
حتى تعانق في الفردوس أبكارا
إن كنت تبغي جنان الخلد تسكنها
فينبغي لك أن لا تأمن النَّارا

يا من أحببت.. أنت روحي وأملي وبدونك أصبحت حياتي كحياة طفل بلا أم.. أو جسداً بلا روح.. أو سفينة بلا قبطان.. أو وطناً بلا قائد.. أو جيشاً بلا سلاح.. أو وردة بلا رائحة .
هل أنت شافية قلباً يهيم بكم
لم يلق عروة من عفراء ما وجدا
ما في فؤادي من داء يخامره
إلا التي لو رآها راهب سجدا

يا من أحببت.. عندما يتردد في مخيلتي صدى صوتك.. أو تتحسس إذني نسمات نفسك.. تثور أشجاني.. فتمدني بالقوة والأمل بعد الضعف واليأس.. والسعادة والفرح بعد الكآبة والحزن.. والتفاؤل والفرج بعد التشاؤم والضيق.. من إثر تقلبات المجتمع.. وحقد العدو.. وبغض الخلان.. وكره الحساد.. ومكائد الأخ.. ونكران الصديق.. وهجران الأهل..
فيا عجباً يستشرفونني
كأن لم يروا بعدي محباً ولا قبلي
ويا عجباً من حب من هو قاتلي
كأني أجزيه المودة من قتلي

فلولا نسماتك في الوجود.. لكنت الآن في عالم العزلة والتشتت.. عالم الوحدة والأحزان.. عالم التيه والضياع.. لأنه ما باستطاعتي أن أقارع وحيداً ذلك الطوفان الجارف.. أو ذلك الإعصار المدمر..
يقولون لي إن بحت قد غرَّك الهوى
وإن لم أبح بالحب قالوا تصبرا
فما لإمرئ يهوى ويكتم أمره
من الحب إلا أن يموت فيعذرا

يا من أحببت.. لقد كنت أقرأ وأسمع عن قصص المحبين.. وحكايات العاشقين أمثال قيس وليلى.. وكثير وعزة.. وجميل وبثينة وغيرهم.. وكنت أعتقد إنها ضرب من ضروب الخيال.. أو نوع من أنواع الكذب المبتذل.. بقصد الربح السريع.. حتى يتلذذ بها الحمقى والمغفلون..ولكن..
لا تعذل المشتاق في أشواقه
حتى يكون حشاك في أحشائه
إن القتيل مضرًّجاً بدموعه
مثل القتيل مضرجاً بدمائه

أما الآن فقد آمنت بما قيل.. وصدقت كل ما كتب.. بعدما عانيت مثل ما عانوا.. وكابدت مثل ما كابدوا.. فالإنسان لا يعرف معنى وقداسة الحب.. إلا إذا عايشه.. واكتوى بناره.. فالحب هو إكسير الحياة.. وهو منبع الرحمة.. ومنبت الفضيلة..
يا لائمي كفَّ الملام عن الذي
أخفاه طول سقامه وشقائه
إن كنت ناصحه فداو سقامه
وأعنه ملتمساً لأمر شفائه
حتى يقال بأنك الخلُّ الذي
يرجى لشدة دهره ورخائه
أو لا فدعه فما به يكفيه من
طول الملام فلست من نصحائه
نفسي الفداء لمن عصيت عواذلي
في حبِّه لم أخش من رقبائه
الشمس تطلع عن أسرة وجهه
والبدر يطلع من خلال قبائه

والمرء إذا أحب ألغى من قاموسه الكره والبغض والحسد.. وأصبح قلبه مثل الثوب الأبيض.. فيعفو عمن ظلمه.. ويغفر لمن أساء إليه.. ويسامح من شتمه أو حقره.. ويصالح من خاصمه.. ويعطي من منعه.. ويبر من هجره.. ويقبل من الناس ما تيسر منهم.. ويشكر محسنهم.. ويعفو عن مسيئهم.. فيعيش قرير العين.. مطمئن النفس.. هادئ البال.. صبوراً على المعارضة.. سهل العريكة.. لين الجانب..
يا لائمي في الهوى العذري معذرة
مني إليك ولو أنصفت لم تلم

يا من أحببت.. إنك أضأت ظلمات حياتي.. وكشفتِ أسرار مكنونات صدري.. وجددتِ لي أحاسيسي ومشاعري.. واقتحمتِ أبواب قلبي المؤصدة.. وهتكت حبائـل فكري.. وأزحتِ غشاوة عقلي.. ومزقتِ ستائر ليلي وسكوني.. فأسرتِ قلبي وعقلي..
إذا وجدت أوار الحب في كبدي
ذهبت نحو سقاء الماء أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهرة
فمن لنار على الأحشاء تتقد

لقد أبصرت الهدى بعد العمى.. فبنورك اهتديت إلى الحياة.. وبقلبك الطاهر واجهت الصعاب والتحديات.. وبروحك النقية تصديت لجميع المشكلات والمعضلات.. بكل صبر وتحمل..
إني أحبُّك حباً ليس يبلغه
فهم ولا ينتهي وصفي إلى صفته
أقصى نهاية علمي فيه معرفتي
بالعجز مني عن إدراك معرفته

يا من أحببت.. لكن وبسبب طول الفراق.. وبعد المسافة بيننا.. وجور الإخوة في حياتنا.. وكثرة القيل والقال.. فإني يعتريني همان.. فيعتصران قلبي.. ويمزقان فؤادي.. ويشتتان فكري.. ويسلبان عقلي.. هَمُّ بُعدِ الفراق.. وهمَّ إصلاح هذا المجتمع.. وكلما أردت أن أزيح أحدهما عن قلبي وعقلي وتفكيري.. تكاد روحي تخرج معه فأدعه على ما هو عليه.. فيعود كما كان بل أشد وأعنف.. وقد قال لي أحدهم :
كتمت الهوى حتى أضرَّ بك الكتم
ولامك أقوام ولومهم ظلم
ونمَّ عليك الكاشحون وقبلهم
عليك الهوى قد نمَّ لو نفع النَّمُّ
وزادك إغراء بها طول بخلها
عليك وابلى لحم أعظمك الهم
فأصبحت كالنهدي إذ مات حسرة
على إثر هند أو كمن سقي السمُّ
ألا من لنفس لا تموت فينقضي
شقاها ولا تحيا حياة لها طعم
تجنبت إتيان الحبيب تأثماً
ألا إن هجران الحبيب هو الإثم
فذق هجرها قد كنت تزعم أنه
رشاد ألا يا ربما كذب الزَّعم

ولهذا ضعف الجسم.. وتشتت الفكر.. وخارت الإرادة.. وفتر العزم.. وأصبحت أمشي في الطرقات.. كجسد بلا إحساس أو عقل.. فإذا جاشت خواطري بخيالك.. هدأت نفسي.. وعاد إحساسي وعقلي..
بنفسي من غداة نايت عنهم
تركت القلب عندهم رهينا
أما لك أيها القلب اعتبار
بما فعل الهوى بالعاشقينا

وعندما يختفي خيالك عن مخيلتي عدت إلى ما كنت عليه.. فيا ترى إلى متى يستمر هذا الحال ؟!!.. وهل هناك من مخرج أو سبيل؟!!
هل إلى أن تنام عيني سبيل
إن عهدي بالنوم عهد طويل
غاب عني من لا أسمي فعيني
كلَّ يوم وجداً عليه تسيل
إنَّ ما قلَّ منك يكثر عندي
وكثير ممَّن تحبُّ القليل


يا من أحببت.. إني أحس الآن وأنت بعيدة عني كإحساس بريء وضع في سجن.. أو طائر وضع في قفص.. ينشدان الحرية التي قد تكون بعيدة المنال.. فأنت حياتي وحريتي.. ونعيمي وسعادتي..
لو حزَّ بالسيف رأسي في مودتها
لمرَّ يهوي سريعاً نحوها رأسي
ولو بلي تحت أطباق الثرى جسدي
لكنت أبلى وما قلبي لكم ناسي
لولا نسيم لذكراكم يروحني
لكنت محترقاً من حر أنفاسي
يا من أحببت.. أنت لي كالماء والهواء في هذا الكون.. فلا حياة بدونك.. ولا عيشة بفقدك..
من أجل هواكم عشقت العشقا
قلبي كلف ودمعتي ما ترقا
في حبكم يهون ما قد ألقى
ما يحصل بالنعيم من لا يشقى
فالحياة بدون مؤنس أو حبيب.. كطعام بلا ملح.. و أرض بلا نبتة أو ماء.. أو سماء بلا نجم أو شمس أو قمر.. أو إنسان قد فقد جميع حواسه وعقله.. ويعيش مثل الحيوان في هذه الحياة.
أحبك يا شمس الزمان وبدره
وإن لامني فيك السهى والفرقد
يا من أحببت.. كل قطرة دم.. شاهدة على صدق حبي لك.. وكل نبضة قلب.. شاهدة على آلامي وأحزاني بفقدك وبعد الفراق.. وكل نسمة طيف.. تذكرني بك.. وكل صرخة ألم.. تشتكي إلى الله جور الزمن.. وكل دمعـة حـزن.. تدعـو الله كي يلـم الشمـل ويجمع المحبين.. إني مجروح وأنت البلسم الشافي .
فررت من اللقاء إلى الفراق
فحسبي ما لقيت وما ألاقي
سقاني البين كأس الموت صرفاً
وما ظني أموت بكف ساقي
فيا برد اللقاء على فؤادي
أجرني اليوم من حر الفراق
فيا أهل الرحمة والعطف.. إني أتعذب.. وعذاب القلب.. أشد وأعظم من عذاب الجسد.. فعذاب الجسد يبرأ.. أما عذاب القلب فلا يبرأ.. إلا باجتماع المحبين.. فهل إلى ذلك من سبيل؟!! وهل هنالك من طريقة؟!!..
هل إلى نظرة إليك سبيل
يرو منها الصَّدى ويشف الغليل
إنَّ ما قلَّ منك يكثر عندي
وكثير ممَّن تحبُّ القليل
يا من أحببت.. أنت دائي ودوائي.. ومرضي وشفائي.. وعافيتي وسقمي.. وناري وجنتي.. وفرحي وحزني.. وكلما ألم بي ألم أو حزن.. أو اعتراني غضب أو هم.. أو اعترضتني مشكلة أو محنة.. أو جاءني السهاد والقلق فيهجرني النوم.. ثم ألم طيفك بخاطري.. انجلى كل ما كنت أعانيه.. وعدت صحيح الجسم.. معافى البال.. ولكن هل يستمر هذا الحال؟!!.
أستودع الله قلباً من فجعت به
وبالأحبة لم أسكن إلى سكن
قد كان يحمل من همي ومن حزني
ما ليس يحمله روحي ولا بدني
لا عدت إن عاد لي قلبي أعذبه
بالحسن كم من قبيح جاء من حسن
يا من أحببت.. هل يا ترى يهدأ القلب بعد الهيجان؟!!.. أم هل تسكن الروح بعد الثوران؟!!.. أم هل تخمد الأحاسيس بعد الاشتعال؟!!.. أم هل يصمد الجسم أمام عدوه الهزال.. ويقارع الأمراض والأسقام؟!.. أم هل تطمئن النفس بعد الفراق؟!!.. أم هل يتحد التركيز والتفكير بعد التيه والضياع؟!!.. وهل بعد الشدة من فرج؟!!.. وهل بعد اليأس والقنوط من استبشار وتفاؤل؟!!.. وهل بعد الظلم والجور من عدل وبر؟!!.. وهل بعد الإساءة من إحسان؟!.. وهل تعود الراحة والطمأنينة بعد البعد والفراق؟!!.. وهل يعود النوم بعد التشتت والهجران؟!!.. وهل تعود الصحة بعد السقم؟!.. وهل يعود الفرح والسرور بعد الضيق والحزن؟!.. وهل تعود السعادة بعد الكآبة؟!.. وهل يعود الأمل بعد اليأس؟!.. وهل تعود القوة بعد الضعف؟!.. وهل تعود الحياة بعد الموت؟!.. وهل يعود الحب بعد الكراهية؟!.. وهل هنالك لقاء بعد الفراق؟!.. وهل تعود العافية بعد المرض؟!.. وهل تعود الابتسامة بعد البكاء؟!.. وهل؟!.. وهل؟!.. وهل؟!.. فهل يا ترى؟!.. وإلى متى؟!...
يقول أناس لو وصفت لنا الهوى
لعلَّ الذي لا يعرف الحب يعرف
فقلت لقد ذقت الهوى ثم ذقته
فو الله ما أدري الهوى كيف يوصف
فيا زهرة حياتي.. وربيع عمري.. ومصباح دجى ليلي.. هذه تساؤلات عقلي.. واستفسارات الضمير الحي.. وقد لج بالسؤال.. وقد أجاب قلبي المثخن بالآلام والأحزان..والمكتوي بنهار البعد والفراق.. نعم يعود كل شي إلى حاله وطبيعته.. حين يتلاقى المحبان.. فتنقشع غمائم الآلام والأحزان.. وتأتي سـحائب المحبـة.. ويسقـط رذاذ الوئـام.. فتغتسل القلوب والضمائر بالتآلف.. وتنتعش الروح.. فتهب نسائم الوجد.. فتطرد رياح الحقد والبغض والكراهية والحسد.. وتعيد الصفاء والسرور في جميع أرجاء المكان.. وتنهمر عبارات الشوق.. فتحل السكينة والوقار.. وتعيد نور الحياة بعد موت الظلمة.. وانتصار الحق.. وعودة الأمل.. فيحل الأمن والطمأنينة.. ويندحر كيد الحساد والحاقدين.. فتحيا قلوب المحبين.. بإشراقة شمس الصباح.. ونشوة النصر.. وعودة السلام.. بسبب الصبر والكفاح.. وعدم اليأس..
اصبر على الدهر إن أصبحت منغمساً
بالضيق في لجج تهوي إلى لجج
فإن تضايق باب عنك مرتتج
فاطلب لنفسك باباً غير مرتتج
لا تيأسنَّ إذا ما ضقت من فرج
يأتي به الله في الرَّوحات والدُّلج
فما تجرَّع كأس الصبر معتصم
بالله إلا أتاه الله بالفرج
فاعذريني يا من أحببت.. على هذه الكلمات المتواضعة.. والتي جاشت بها نفسي وأحاسيسي.. فعبر عنها قلمي.. بمداد دمي.. والتي لا تدل إلا على جزء يسير مما أعانيه.. من آلام وأحزان.. وفراق وهجران..
يا حادي العيس اصخ لمدنف
متيم لج به الغرام
إذا وقفت في ثنيات اللوى
ولا الديار والخيام
وافترت الرياض عن أزهارها
عقيب ما قد رحل الغمام
وهبت الريح فهب شيحها
وانتبه الحوذان والثمام
فقف قليلاً نتزود نظرة
تحيا بها الأرواح والسلام
وقد خانني في كثير من الأمور التعبير عما أعانيه.. فإن لاقت قبولاً منكم.. فإنها مرسلة من قلب جريح إلى قلب عطوف رحيم.. ومن جسم سقيم من أثر الهموم والأحزان إلى من نرجو عنده الشفاء..
يقول أناس لو نعت لنا الهوى
ووالله ما أدري لهم كيف أنعت
سقام على جسمي كثير موسَّع
ونوم على عيني قليل مفوَّت
إذا أشتدَّ ما بي كان أفضل حيلتي
له وضع كفي فوق خدي وأسكت
ومن إنسان مظلوم إلى قاضٍ يستطيع أن يمايز بين الحق والباطل.. وبين الهدى والضلال.. وبين النور والظلمة.. وبين زخرف القول من جيده.. وبين الأقاويل الفاسدة.. والحجج والبراهين الكاسدة.. فلا تنطوي عليه حيل وألاعيب الحاقدين .. ولا أقوال النمامين.. ولا كلام المشككين.. ولا أساليب المنافقين.. ولا خبث الحاسدين.. ولا مكر الماكرين.. ودهاء أبناء الشياطين.. وارحموا عزيز قوم ذل..
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم
وتذنبون فنأتيكم فنعتذر
شكوت ما بي إلى ... فما اكترثت
ما قلبها؟ أحديد أنت أم حجر؟!
لا تحسبيني غنياً عن مودتكم
فلي إليك وإن أيسرت مفتقر
وإلا فاعتبريها.. قد صدرت من هذيان رجل قد شارف على الموت والهلاك؟!!.. أو اعتراه عارض من الجنون ؟!!.. أو مس من الجن ؟!!..
قالت جننت على ذكري فقلت لها
الحبُّ أعظم مما بالمجانين
الحب ليس يفيق الدهر صاحبه
وإنما يبرء المجنون في الحين
أو أعتبريها قد أخطأت الرسالة العنوان.. فارجوا العفو والمغفرة.. إذا كنت قد سببت بهذه الكلمات المتناثرة.. أي إزعاج أو ألم.. أو ضيق أو حزن.. والمسامح كريم..
كتبت كتابي ما أقيم حروفه
لشدة إعوالي وطول نحيبي
أخطُّ وأمحو ما خططت بعبرة
تسح على القرطاس سحَّ غروب
سأحفظ ما قد كان بيني وبينكم
وأدعوكم في مشدي ومغيبي
وإني لأستهدي الرياح سلامكم
إذا أقبلت من نحوكم بهبوب
يا من أحببت..
أتهجرون فتى أغري بكم تيهاً
حقاً لدعوة صبٍّ أن يجيبوها
أهدى إليكم على نأي تحيته
حيوا بأحسن منها أو فردُّها
يا من أحببت.. وفي الختام أدعو الله الكريم الرحيم.. أن يفرج كربنا.. ويستر ما انطوت عليه قلوبنا.. وأن يلهمنا الصبر على الفراق.. وأن يرحمنا من عذاب الشوق والحرمان.. ويغفر لنا ما تنطوي عليه أنفسنا من شوق وحب.. إنه هو الغفور الرحيم.. وإنه هو البر الكريم.. ربي اغفر ورحم.. وأنت خير الراحمين..
إلهي لا تعذبني فإني
مقر بالذي قد كان مني
ومالي حيلة إلا رجائي
وبعفوك إن عفوت وحسن ظني
فكم من زلة لي في البرايا
وأنت عليَّ ذو فضل ومنٍ
إذا فكرت في قدمي عليها
عضضت أناملي وفرعت سني
يظن الناس بي خيراً وإني
لشر الناس إن لم تعف عني
أُجن بزهرة الدنيا جنونا
وأفني العمر فيها بالتمني
وبين يدي محتبس ثقيل
كأني قد دعيت له كأني
ولو إني صدقت الزهد فيها
قلبت لأهلها ظهر المجنِّ
( تمت الرسالة)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق