الثلاثاء، 15 سبتمبر 2009

حدائق ذات أفنان ج1 ( قالت : من أنبأك هذا؟!!!)

أخبرها في يوم من الأيام بخبر.. وقال لها : اكتمي هذا عن البشر .. والله لا أفلح إن علم لصوص الخبر.. واحذري من أصحاب المكر.. فمكرهم لا يبقي ولا يذر.. وإياك وعين الحسود.. فإنها ترى مالا يراه المجهر.. فكوني في كتمه مثل الحجر.. لا يسمع ولا يتكلم ولا يبصر.. وإياك والاغترار بالمظهر.. فالأفعى ملمسها ناعم.. ولكن في أنيابها الضرر.. هذه نصيحتي والله بيننا يسمع ويبصر..
فلا يسمعن سري وسرك ثالث
ألا كلَّ سر جاوز اثنين ضائع

فقالت له : لا تخف يا أعز البشر.. فالخبر في بئر ليس له قعر.. ولا تهتم من هذا فإني والله في كتمه مثل القلم الذي انتهى منه الحبر!!.. ففي أمان الله سر.. وفي عملك لا تتأخر..
وأكتم السر حتى عن إعادته
إلى المسرِّ به من غير نسيان
وذاك أن لساني ليس يعلمه
سمعي بسرِّ الذي قد كان ناجاني

وقد أخبرها بذلك بعد صلاة الظهر.. ولم تتجاوز صلاة العصر .. حتى علم أن الخبر قد انتشر .. فذهب إليها غاضباً وليستفسر الخبر.. وليجد الداعي لإخلاف الوعد وما جد في الأمر.. وقد استطار من عينيه الشرر.. وساورته الشكوك والظنون والتي عقله منها قد سكر.. ورأسه قد كاد ينفجر.. وهو في طريقه تذكر قول أحد أصحاب الشعر :
إن النساء كأشجار نبتن لنا
منها المرار وبعض النبت مأكول
إن النساء متى ينهين عن خلق
فإنه واجب لابدًّ مفعول
لا ينصرفن لرشد إذ دعين له
وهنًّ بعد ملائيم مخاذيل
وما وعدنك من شر وفين به
وما وعدنك من خير فممطول

ولما وصل إليها رأته مشتت الفكر.. ولمحت في وجهه الشر.. وعرفت أن الغضب حان وقته لكي ينفجر.. فساورتها الشكوك والظنون لكنها عالجتها بالصبر.. وحاولت بفطنتها أن تعرف ما الذي أوجب الضجر!!.. فعاجلها بالسؤال مستغرباً من فعلها الخطر.. وما سبب خبره على الملأ ظهـر؟!.. وقال لها : هل هكذا في زمانكم يفعل الحُـر؟!.. أم أن الأسرار في يومنا هذا تقدر حسب السعر؟!!.. ثم دار في خاطره قول الشاعر :
إذا المرء أفشى سره بلسانه
ولام عليه غيره فهو أحمق
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه
فصدر الذي يستودع السر أضيق

فقالت له : والارتباك عليها قد ظهر.. ولا تتميز الحروف من نطقها والعرق يقطر من جبينها كأنها في يوم شديد الحَر.. من أنبأك بهذا وبالسر المستتر.. ألديك علم بالكتاب أم أنك تتعامل بالسحر؟!!..
فقال لها : ليس هذا وقت المكر.. وكما تعلمين فإني لا أتعامل بالسحر.. ولكني أقول :
لكل داء دواء يستطب به
إلا الحماقة أعيت من يداويها

فدعي عنك هذا الهذر.. لقد كشف الله خيانتك لشريك العمر.. وفعلتِ ما فيه نكر.. ولا ينفع اليوم اللوم أو العذر.. ولا ينفع الجبر للذي انكسر.. ويا ليتني كنت في القبر.. حتى لا أعلم بأن الذي خانني هو شريك العمر.. ولكن لا تنفع لو ولا يا ليت ولا الحذر من القدر.. لقد هلكت مثل فعلكِ كثير من الأسر.. فتوبي إلى الله من فعلكِ فإنه خير معين لمن تاب واستغفر..
وجنة المأوى تكون مأوى
لمن نهى النفوس عما تهوى
وقلل الكلام فالكلام
أن يكثرن تكثر به الآثام

فقالت : استغفر الله مما قل منه أو كثر.. واعذرني فقد خانني اللسان ولم ينفع الحذر.. والنفس والهوى اللتان توقعان اللبيب في الأسر.. ولم يكن قصدي من عملي هذا أن ألحق بك الضرر.. ولا أتلذذ بفعل الشر.. إنما جهلي وضعف ذاكرتي هو الذي أرداني في الحفر.. فاعذرني فقد سبق السيف العذل.. وإني والله لم أخبر بهذا الأمر إلا قليلاً من البشر؟!!.. وكان في مجلسنا الشيطان قد حضر.. وكما تعلم فالنساء في مجالسهن كثيرات الهذر.. ولم أتوقع بفعلي الأشر.. أن الخبر بهذه السرعة سينتشر.. ولكن..
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب
ولا ينال العلا من طبعه الغضب

فقال : ما أقبحه من عذر.. لقد هلك من فعلكن أولوا البصر.. ثم سألها.. أكل الناس هكذا من أنثى وذكر؟!!.. أم أن الأمور في زماننا هذا قد تغيرت وإني في عصر لا يكتم الخبر.. وأصبح الناس غير مؤتمنين سواء في الحل أو في السفر.. أم أنه قد طمست البصائر وقدت القلوب من حجر.. أواه لقد قضت الخيانات في هذا العصر على الشجر والمدر..
لا تركنن إلى ما لا وفاء له
الذئب من طبعه أن يقتدر يثب

فقالت : أستغفر الله عن كل أمر قد صدر.. ودع عنك اللوامة واقبل مني العذر.. فالله يعطي الثواب للذي قد غفر.. وهذا مقام العائذ التائب عند واسع الصدر..
خذ من خليلك ما صفا
ودع الذي فيه الكدر
فالعمر أقصر من معا
تبة الخليل على الغير

فسامحها للذي قد كان منها قد بدر.. وذكرها بالإله وكيف على الشيطان تنتصر.. وأخبرها بالمواثيق وما بينهم من العهود.. وقال لها : أن الوعد دين على الحر.. وذكرها ببعض آي من السور.. وأن الله عليم ما في النفوس ولو حاول أي إنسان أن يخفي ما في الصدر.. ولم ينسَ أن يذكرها من كلام خير البشـر.. وذكـرها بما جـاء في السيـر.. وذكـرها أيضـاً بقصـص الصالحين لعلها تعتبر.. وحذرها من الصائدين في الماء العكر.. ومن أصحاب اللسان السليط الذين همهم توقيع البشر.. وذكرها بأن حياتهم هذه ليست إلا متاع الغرور لا يسلم منها إلا من كان على حذر.. وحذرها من النار ومن مس سقر.. ولم ينسَ أن يذكرها بالساعة لأن الساعة أدهى وأمر.. فالإنسان في يومها يكون على مشارف الخطر.. فينبأ الإنسان هنالك بما قدم وأخر.. فإن كان قد خالف السميع البصير.. فيقول الإنسان يومئذ أين المفر.. كلا لا وزر.. إلى ربك يومئذ المستقر.. ومأواه جهنم وبئس القعر.. وما للظالمين من نصر.. وأما إن كان قد انتهج منهج الرحيم الخبير.. واتبع مسلك صاحب الكوثر.. وانتهج سيرة أبي بكر وعمر.. فمأواه جنة لا تخطر على قلب بشر.. ولا يتخيلها وهم ولا فكر.. جزاء بما قدم وأخر.. وذكر لها أبياتاً من الشعر:
الصًّمت للمرء حليف السلم
وشاهد له بفضل الحكم
وحارس من زلل اللسان
في القول إن عيًّ عن البيان
فعذبه معتصماً من الخطا
أو سقط يفرط في ما فرطا
إنًّ السكوت يعقب السلامة
فرب قول يورث الندامة
لا شيء من جوارح الإنسان
أحقُّ بالحبس من اللسان
إنًّ اللسان سبع عقور
إن لم يسُسْه الرأي والتدبير

وفي نهاية الأمر قرر أن لا يخبرها بسر يتوقع في إفشاءه خطر.. من مادام له بقية من عمر.. ولو شعر أن عقله من السر يكاد ينفجر.. أو أحس أن قلبه قد تضجر.. ولابد من إخراج ما كان في الصدر.. لأن جسمه على تلك الحالة لن يستقر.. فأحب الأشياء إليه للجبال أن يفر.. وأن يخرج ما كان في صدره من سر.. ولا يطلع أحداً من البشر.. حتى لا يقع مرة أخرى في خطر.. ولا يعني هذا أنه لم يسامحها ولكنه حتى يكون على حذر.. والمؤمن لا يلدغ مرتين من جحر.. متمثلاً بقول الشاعر :
فلا تودعنًّ الدهر سرك جاهلاً
فإنك إن أودعته منه أحمق
وحسبك في ستر الأحاديث واعظاً
من القول ما قال الأديب الموفَّق
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه
فصدر الذي يستودع السِّرَّ أضيق

وفي ختام حديثهم دعوا الله أن يغفر لهم خطاياهم في السر والجهر.. وما تقدم من ذنبهم وما تأخر.. وقالوا في مجمل دعائهم.. ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار.. ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار.. ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار.. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.. إن الله على كل شيء قدير.. وبالإجابة جدير.. نعم المولى.. ونعم النصير..
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي
جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته
بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل
تجود وتعفو منة وتكرما
فلولاك لم يصمد إبليس عابد
فكيف وقد أغرى صفيك آدما


إضاءة :
إن الله سبحانه وتعالى عبر عن الحياة الزوجية باللباس قال تعالى واصفاً ذلك : { هنَّ لباس لكم وأنتم لباس لهن } (البقرة : 187).. واللباس في حقيقته لا يستغني عنه الإنسان في هذه الرحلة الشاقة.. رحلة الحياة.. فهو الذي يحول بينه وبين وقدة الصيف ولفحة الشمس.. وهو الذي يدثره ويبعث الدفء في أوصاله في ليالي الشتاء القارصة.. وهو فوق ذلك يستر تشوهات الجسم وعيوبه بالنسبة لكل منهما فلا تمجهما العيون أو تنفِّر منهما الآخرين..
وهو بالنسبة للمرأة ستر ووقاية أيضاً يستر محاسنها ومفاتنها ويقي جسدها من عيون الرجال المتلصصة ومن في قلوبهم مرض.. وإذا كان هذا بالنسبة للباس .. فماذا بالنسبة للرجل والمرأة في حياتهما الزوجية؟!!..
إن كلاً منهما ستر الآخر.. ستر لأقواله وأفعاله.. وحفظ لأسراره وما يخفيه.. فالمرأة ستر للرجل ووقاية.. عندما يوشك أن تغلبه الإرادة.. والرجل ستر للمرأة وصيانة عندما تغلبها العاطفة ويسيطر عليها الضعف الأنثى.. فمن مقومات وشروط الحياة الزوجية المحافظة على حياتهم وحقوقهم فيما يدور بينهم من أسرار ومواقف فلا ينبغي أن يطلع عليها أي أحد من البشر أو أقرب الناس إليهم..
وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: <<ألا عسى أحدكم أن يخلو بأهله يغلق باباً.. ثم يرخي ستراً.. ثم يقضي حاجته.. ثم إذا خرج حدث أصحابه بذلك!!.. ألا عسى إحداكن أن تغلق بابها.. وترخي سترها.. فإذا قضت حاجتها حدثت صواحبها!!>>.. فقالت امرأة سعفاء الخدين : والله يا رسول الله إنهن ليفعلن.. وإنهم ليفعلون؟!!.. قال: << لا تفعلوا.. فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة على قارعة الطريق.. فقضى حاجته منها.. ثم انصرف وتركها>> فالنهي في الحديث الشريف ينطبق على الرجال والنساء كحد سواء من دون النظر إلى الجنس فقد تجد تارة الرجل هو الذي يكشف أسرار الحياة الزوجية لأصحابه وخلانه وتارة أخرى المرأة هي التي تكشف أسرار الحياة الزوجية لصويحباتها فالجنس لا يدل بالضبط على حفظ الأسرار أو كشفها..
فينبغي أن ينظر الزوجان إلى ما يحدث بينهما.. في داخل بيتهما.. على أنه من الأسرار التي يجب كتمانها.. وخصوصاً الخلافات الزوجية التي تقع بينهما.. لأن معرفة الآخرين بتلك الخلافات قد يؤججها ويؤزمها بدلاً من أن يخففها ويحلها..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق