الخميس، 17 سبتمبر 2009

حدائق ذات أفنان ج1 ـ الرسائل : 6) (رسالة إلى متكبر)

الرسالة السادسة:
رسالة إلى متكبر:

الحمد لله العزيز الجبار.. جلت عظمته.. وسمت حكمته .. وتجلت في خلقه قدرته.. وعمت على عباده نعمته.. ولا شريك له في ملكه.. إن يشأ يرحم وإن يشأ يعذب.. فمجاز من اهتدى واتقاه.. بجنة رحيبة شيِّقة.. ومعذب من بغى وتكبر.. بنار مستعرة.. وقودها الناس والحجارة.. كسر ظهور الأكاسرة عزه وعلاه.. وقصر أيدي القياصرة عظمته وكبرياؤه.. فالعظمة إزاره.. والكبرياء رداؤه.. ومن نازعه فيهما قصمه بداء الموت فأعجزه دواءُه.. القائل في كتابه العزيز : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } (الأعراف: 146).. وقوله : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ } (النحل:23).. وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } (غافر: 60).. وقوله : { فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } (الزمر:72، غافر76).. وقوله : { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } (الدخان: 43ـ 49) .. والصلاة والسلام على خير مبعوث في الأنام .. الآمر بالتواضع.. والناهي عن الغرور والتكبر.. القائل في الحديث القدسي : << يقول الله سبحانه الكبرياء ردائي والعظمة إزاري من نازعني واحداً منهما ألقيته في جهنم >> (سنن ابن ماجه [4174] ج2 ص1397) والقائل : << يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال>> (سنن الترمذي [2492] ج4 ص655) والقائل : << بئس العبد عبد تخيل واختال ونسي الكبير المتعال.. بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسي الجبار الأعلى.. بئس العبد عبد سها ولهى ونسي المقابر والبلى.. بئس العبد عبد عتا وطغى ونسي المبتدأ والمنتهى>> (سنن الترمذي [2448] ج4 ص632).. وعلى آله وصحبه المتقين الأكرمين.. وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .. أما بعد:
كم جاهل متواضع
ستر التواضع جهله
ومميز في علمه
هدم التكبر فضله
فدع التكبر ما حييت
ولا تصاحب أهله
فالكبر عيب للفتى
أبدا يقبح فعله

هذه رسالة أرسلها إليك.. بعد أن نفذت كل الطرق والأساليب في إرجاعك إلى حظيرة الإسلام.. ولكني لم أيأس.. فلعل هذه الرسالة تلاقي قلباً واعياً.. وعقلاً ألمعياً.. تزيح عنه غشاوة الظلام بنور اليقين.. وتبدد سحاب الجهل بنسمات الحق..
جد في الجد قد تولى العمر
كم ذا التفريط قد تدانى الأمر
أقبل فعسى يقبل منك العذر
كم تبنى وكم تنقص كم ذا الغدر

فاعلم هداك الله إلى ما يحبه ويرضاه.. أن هذه الحياة مهما طالت وامتدت.. وعمر فيها الإنسان ما عمَّر.. وعاش فيها ما عاش.. وأخذ فيها بمباهجها وزخرفها.. إلا أنها ليست بدار قرار ولا استقرار.. وليست بدار خلود ولا بقاء.. ولا دوام ولا استمرار..
أرى الدنيا لمن هي في يديه
هموماً كلما كثرت لديه
تهين المكرمين لها بصغر
وتكرم كل من هانت عليه
إذا استغنيت عن شيء فدعه
وخذ ما أنت محتاج إليه
إن التقوى من الدنيا بلاغ
ورزق المرء مبعوث إليه

فالدنيا إنما هي دار عبور وسفر.. ورحيل وانتقال.. يعبر منها الإنسان.. إلى دار باقية خالدة.. لا يفنى نعيمها.. كما لا ينقطع عذابها.. فهي تنقسم إلى قسمين.. ويماز أهلها إلى فريقين : { فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِير} (الشورى: 7).. ينتقل الإنسان إلى تلك الدار.. التي فيها من النعيم لعباد الله الصالحين.. ما لا عين رأت.. ولا أذن سمعت.. ولا خطر على قلب بشر.. ولا تخيله وهم ولا فكر.. فالألباب تحار في حسن صنعة الجنة.. وجمال هيئتها.. وبهجة منظرها.. وعظيم سعتها.. فاسمع معي حينما يصفها من يعرفها.. فيقول سبحانه : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } (محمد: 15)..
وقوله سبحانه : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ* لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا * وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَاء مَّسْكُوبٍ* وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} (الواقعة: 10ـ 40).. وغيرها من الآيات الكثيرة.. في وصف الجنة.. والنعيم الذي أعده الله تعالى للطائعين..
إن لله عباداً فطنا
تركوا الدُّنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا
أنها ليست لحيٍّ وطنا
جعلوها لجَّة واتخذوا
صالح الأعمال فيها سفنا

والله سبحانه.. كما أعد للطائعين الثواب.. أعد للعاصين العقاب.. فقد أعد للعصاة المعاندين المتكبرين.. ما لا عين رأت.. ولا أذن سمعت.. ولا خطر على قلب بشر.. ولا تخيله وهم ولا فكر.. فاسمع معي حينما يصفها من يعرفها.. فيقول سبحانه : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا } (النساء: 56) ..
وقوله : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ } (الحاقة: 25ـ 37).. وغيرها من الآيات الكثيرة.. في وصف العقاب الذي أعده الله تعالى للعاصين..
إذا ما ظالم استحسن الظلم مذهباً
ولجَّ عتواً في قبيح اكتسابه
فكله إلى صروف اللَّيالي فإنها
ستبدي له ما لم يكن في حسابه
فكم قد رأينا ظالماً متمرداً
يرى النجم تيهاً تحت ظل ركابه
فعما قليل وهو في غفلاته
أناخت صروف الحادثات ببابه
فأصبح لا مال ولا جاه يرتجى
ولا حسنات تلتقي في كتابه
وجوزي بالأمر الذي كان فاعلاً
وصبَّ عليه الله سوط عذابه


واسمع معي عقاب المتكبرين في الآخرة .. يقول سبحانه : وقوله : { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } (الدخان: 43ـ 49).. فها أنت قد علمت.. ماذا أعد الله للطائعين من عباده.. وماذا أعد للعاصين من عباده.. والخيار راجع لك.. أي الطريقين تختار أن تسلكه.. طريق الشقاوة والضلال.. الذي آخره ندم وتحسر.. أم طريق الهدى والإيمان.. والذي آخره راحة وطمأنينة.. ونعيم مقيم..
يا مظهر الكبر إعجاباً بصورته
أنظر خلاك فإن النتن تثريب
لو فكر الناس فيما في بطونهم
ما استشعر الكبر شبان ولا شيب
هل في ابن آدم مثل الرأس مكرمة
وهو بخمس من الأقذار مضروب
أنف يسيل وأذن ريحها سهك
والعين مرفضة والثغر ملعوب
يا ابن التراب ومأكول التراب غداً
أقصر فإنك مأكول ومشروب


أيها الرجل.. دع عنك التسويف وتأجيل التوبة.. إلى ما بعد الشباب.. فالموت أقرب إليك من حبل الوريد.. ولا تغررك الدنيا بزخرفها وبريقها.. فهي خداعة مكارة.. لا يأمن جانبها..
كم ضاحك والمنايا فوق هاماته
لو كان يعلم غيباً مات من كمد
من كان لم يؤت علماً في بقاء غد
ماذا تفكُّره في رزق بعد غد


أيها الرجل.. ماذا تفعل لو جاءك الموت.. وأنت على تلك الحالة من الكبر والغرور.. والروح في تغرغرها.. وقد بلغت الحلقوم.. فكيف يكون حالك.. وما هو مآلك.. وترى الأهل واقفين بجوارك.. هذا يبكي.. وذاك يصيح.. وذاك يتلوى.. وذاك يتألم.. وبعد لحظة.. خرجت الروح.. وبدؤوا يغسلونك.. وفي الأكفان يضعونك.. وفي القبر بعد أن صلوا عليك يتركونك.. وبالحصـى والطين يغطونك.. فهل فكرت واستعددت لهذا العمل؟! وهل انتبهت من غفلتك؟!..
وكم من عبرة أصبحت فيها
يلين لها الحديد وأنت قاس
إلى كم والمعاد إلى قريب
تذكر بالمعاد وأنت ناس
وبادرت إلى التوبة والرجوع إلى الحق.. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى } (النازعات: 26)..
وجوههم من سواد الكبر عابسة
كأنما أوفدوا غصباً إلى النار
هانوا على الله فاستاءت مناظرهم
يا ويحهم من مناكيد وفجَّار
ليسوا كقوم إذا لاقيتهم عرضاً
أهدوك من نورهم ما يتحف الساري
من تلق منهم فقد لاقيت سيدهم
مثل النجوم التي يسري بها الساري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق