الاثنين، 14 سبتمبر 2009

حدائق ذات أفنان ج1 ( قضاء وقدر)

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز :{ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(غافر: 20)..فالله هو الذي يقضي ويحكم في هذا الكون فقضاءه عدل.. وحكمه نافذ.. وذلك لكمال قدرته وعلمه..{ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (يونس:61).. فلا يغيب ولا يخفى على الله.. وزن ذرة في الكائنات والوجود.. ولا أصغر من الذرة ولا أكبر منها.. إلا وهو معلوم عند الله.. ومسجل في اللوح المحفوظ.. فمن صفحات هذا الكتاب خطت سطور القضاء والقدر.. وعرفت مصاير الأمور.. ووضحت نهاياتها من شقاوة وسعادة.. { فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} (الأعراف:30)..
إنما الغيب كتاب صانه
عن عيون الخلق رب العالمين
ليس يبدو منه للناس سوى
صفحة الحاضر حيناً بعد حين

ولقد قضى الله وقدر في هذا الكون.. أن يكون الصراع بين الحق والباطل.. وبين الإيمان والكفر.. وبين الخير والشر.. وبين الهدى والضلال.. وبين النور والظلمة.. وبين الصلاح والفجور.. منذ أبينا آدم.. إلى يومنا هذا.. وما ذلك.. إلا ليميز الله الخبيث من الطيب.. والصادق من الكاذب.. والصالح من الطالح.. والسعيد من الشقي.. والمؤمن من الكافر والمنافق.. حتى يرث الله الأرض ومن عليها.. قال تعالى : {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت:2ـ 3) .. فلا يتم إيمان المرء حتى يؤمن بقضاء الله وقدره.. وبسبب عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر.. لدى المسلمين.. يعلم المسلم.. أن ما أصابه لم يكن ليخطئه.. وما أخطأه لم يكن ليصيبه.. شعاره في الحياة.. {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (التوبة: 51).. فلن يصيب المرء من خير أو شر إلا بتقدير المولى جل وعلا.. ولا يقع عليه إلا المقدر المكتوب من الأزل..
ضمانة الله للإنسان كافية
ففيم تدبيره والحرص والعجل
إن كنت تملك بالتدبير رزق غد
فلترتجع فائتاً من أمرك الحيل
كلا لقد أعجز التدبير ما حتمت
به الأمور فلا جد ولا خول
ثبت يقينك فيما الله قاسمه
لابد آتيك لا فوت ولا ميل

يقول الله تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (الحديد:22ـ23) فما تحدث مصيبة في الأرض.. ولا في البشر إلا وهي مكتوبة مثبتة في علم الله تعالى.. من قبل أن يخلق الخلق.. وينشئ البرية.. وهي مسجلة في اللوح المحفوظ.. وإثبات ذلك سهل يسير على الله وإخبارنا من قبل الله تعالى بذلك.. كي لا نحزن على ما فاتنا من نعيم الدنيا.. ولكي لا نبطر بزهرة الدنيا الفانية..
لا يدفع المرء ما يأتي به القدر
وفي الخطوب إذا فكرت معتبر
فليس ينجي من الأقدار إن نزلت
رأي وحزم ولا خوف ولا حذر
فاستعمل الصبر في كل الأمور ولا
تجزع لشيء فعقبى صبرك الظفر
كم مسنا عسر فصرفه إلا
له عنا وولى بعده يسر
لا ييأس المرء من روح الإله فما
ييأس منه إلا عصبة كفروا
إني لأعلم أن الدهر ذو دول
وأن يوميه ذا أمن وذا خطر

وأن كل ما يصاب به المؤمن.. من شر أو مصيبة.. أو كارثة أو ضائقة.. يعتبر نعمة من الله سبحانه وتعالى.. سيثاب ويؤجر عليها.. إن صبر على المصائب والمحن وشكر على كل حال كان.. ففي الحديث الشريف عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : << ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر الله به من سيئاته>> (سنن البيهقي الكبرى [6329] ج3 ص373).. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : <<لا يصيب المرء المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه بها خطاياه>> (صحيح ابن حبان [2905] ج7 ص166) .. وقال ابن عباس : "ليس من أحد إلا هو يحزن ويفرح.. ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبراً.. وغنيمته شكراً".. يعني أن المؤمن إذا عرف أن كل ما يحدث عليه.. من مصائب ونكبات.. إنما هو بقضاء الله.. استسلم لحكم الله.. فاستراح قلبه واطمأن.. وشعر بالراحة والرضى.. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :<< عجباً لأمر المؤمن.. إن أمره كله له خير.. وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن.. إن أصابته سراء شكر فكان خير له.. وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له>> (صحيح مسلم [2999] ج4 ص2295).. وفي رواية أخرى: << عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير إن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضراء صبر وكان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن >> ( صحيح ابن حبان [2896] ج7 ص155) ..
كن عن همومك معرضاً
وكل الأمور إلى القضا
وأبشر بخير عاجل
تنسى به ما قد مضى
فلرب أمر مسخط
لك في عواقبه رضا
ولربما اتسع المضيق
وربما ضاق الفضا
الله يفعل ما يشاء
فلا تكن معترضا
الله عودك الجميل فقـ
ـس على ما قد مضى

إن هذه العقيدة.. إذا رسخت في نفس الإنسان.. وقرت في ضميره.. واستكانت في عقله.. صارت المصيبة عطية.. والمحنة منحة.. والمشكلة نعمة.. فيدفع المؤمن إلى طاعة الله.. والإقبال عليه بكل ما أوتي من ذكاء وعزم وقوة.. فهو حين ينشط للعبادة.. ويتلذذ بالطاعة.. يعلم في ذلك توفيق الله تعالى وهدايته وقبوله..
لما رأيتك قاعداً مستقبلاً
أيقنت أنك للهموم قرين
فارفض بها وتعرَّ من أثوابها
إن كان عندك للقضاء يقين
ما لا يكون فلا يكون بحيلة
أبداً وما هو كائن سيكون
يسعى الذكيُّ فلا ينال بسعيه
حظاً ويحظى عاجز ومهين
سيكون ما هو كائن في وقته
وأخو الجهالة متعب محزون

وأعجبني كلام د. محمد كمال الشريف في كتابه القيم سكينة الإيمان تأملات نفسية إسلامية (في العقيدة ـ والأخلاق ـ والعبادات) في الفصل الثامن المعنون : قدر لا مصادفة
حيث قال: "قال الله تعالى :{ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً * الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً} (الفرقان : 1ـ 2)
إن من الأسباب الهامة للقلق النفسي عند الإنسان ظنه أن المصائب تقع عليه بشكل عشوائي ، وأنه لا يحميه منها إلا حذره، واحتياطه... وهو مع ذلك يبقى قلقاً ؛ لأنه مهما احتاط فإنه لا يعرف من أين تأتيه المصائب أحياناً .. كما أنه لا غنى للإنسان عن الكثير من الأعمال اليومية التي تنطوي على كل شيء من الخطورة حتى لو كان قليلاً .. أما المؤمن فيحميه إيمانه بقضاء الله وقدره من هذا النوع من القلق ، إذ لا يصح الإيمان ما لم تكتمل أركانه كلها، ومنها الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى. فكل ما يجري في الكون ، ويبدو للناظر أنه ناتج عن فعل القوانين الطبيعية المتفاعلة مع الصدفة ، أو عن فعل كائنات لها بعض الحرية، وتساهم في إحداث ما يحدث في هذا الكون ، إن ذلك كله يجري بقدر الله تعالى؛ الذي خلق القوانين الطبيعية، والذي منح الحرية ، والإرادة ، والقدرة لبعض مخلوقاته ،فالله يعلم كل شيئ،ويعلم ما يمكن أن يحدث في المستقبل،وهو إما ان يأذن بحدوثه او يتدخل فيمنع حدوثه،أ يجعل الأحداث تجري لتؤدي إلى أمر يريده.
وهذا الإذن الذي تحدث ضمنه الأحداث ،وتلك الإراده الفاعله التي تسير بعض الاحداث بأمر مباشر منه سبحانه وتعالى،هذا الإذن وتلك الإراده الفاعله، كلاهما وجهان لمشيئة الله،يجعلان من كل حدث يحدث في الوجود قدرا من أقدار الله، علم انه سيحدث فأذن بحدوثه،أو اراد حدوثه بقضاء منه،فتدخل بما يؤدي إلى حدوثه.
يقول الله تعالى:{إنا كل شيء خلقناه بقدر*وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر}(القمر: 49ـ50).
إن الإيمان بالقضاء والقدر يقود إلى سكينة النفس وطمأنينتها،بعكس الإيمان بالمصادفه،والعشوائيه.
يروى أنه في احد الأيام مر إبراهيم بن أدهم على رجل ينطق وجهه بالحزن والهم،فقال له:أيها الرجل! إني سائلك عن ثلاث فأجبني. قال الرجل: نعم.
قال إبراهيم : أيجري في هذا الكون شيء لا يريده الله؟
قال الرجل المهموم:كلا.
قال إبراهيم: أينقص من رزقك شيء قدره الله؟
قال الرجل:كلا.
ثم قال إبراهيم:أينقص من أجلك لحظه كتبها الله؟
قال الرجل:كلا.
فقال إبراهيم: فعلام الهم والحزن إذاً؟!
إن الإيمان بالقضاء والقدر لا يعني إلغاء فعل القوانين الطبيعيه، وفعل الإنسان الحر،وغير ذلك من العوامل المؤثرة،لكن الجميع يعمل ضمن مشيئة الله، فالمصائب لا تقع على أحد بشكل عشوائي وإن بدت كذلك، إنما هي مقدره من الله تعالى.
وعلى الإنسان ألا يجلب المصائب لنفسه، وألا يقصر في الاحتياط ضد حدوثها ما استطاع ، فاحتياطه من قدر الله أيضاُ ، ودعاؤه من الله تعالى، يرد الله به قدراً آخر.
قال صلى الله عليه وسلم : << ولا يرد القدر إلا الدعاء>> (ابن ماجة حديث رقم : 90).
وبعد الاحتياط والدعاء، إن أصابت المؤمن مصيبة تلقاها بالصبر ، فهو يعلم إنما وقعت بمشيئة الله، فهي قضاء منه وقدر.
قال تعالى { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب الله من قبل أن تبرأها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور} (الحديد : 22 ـ 23) .
والفرح الذي كرهه الله في هذه الآية ليس هو السرور والبهجة بالنعمة، إنما هو الاختيال والتكبر ، وما يصاحبه من فخر وتباه، وظن أن النعمة أتته بعلمه وقدرته الذاتية، ناسياً أن مهاراته وعلمه لن تأتيه ما لم يقدر الله له الظروف المناسبة كي يكون لعلمهن وفنه، وجهده تلك النتائج والثمرات.
وقد تكون النعمة مصدر قلق نفسي للإنسان الذي يخاف فقدها، وتحولها، إنه مسرور بالنعمة ، خائف من أن يخسرها في المستقبل ، لكن الله أدك أن المؤمن الذي يشكر الله على نعمة له أن يتوقع المزيد، لا أن يخشى فقدها.
قال تعالى : { وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} (إبراهيم: 7) .
فالشكر لله هو وسيلة المؤمن للتأمين ضد زوال النعم، والشكر على النعمة يكون بالإقرار أنها من الله، وفضل منه، وبالامتناع عن التكبر، والاختيال بها على الناس ، وبابتغاء الدار الآخرة بهذه النعمة ، دون نسيان نصيبنا من متع الحياة الدنيا الحلال، ثم أن نحسن إلى الناس كما أحسن الله إلينا، وان نمتنع عن الظلم والبغي في الأرض اغتراراً بنعم الله علينا فمن فعل هذا فقد شكر". المصدر: [سكينة الإيمان تأملات نفسية إسلامية ـ محمد كمال الشريف ـ ص(45 ـ 49) ـ دار ابن كثير ، (دمشق ـ بيروت) ـ ط1 ـ 1417هـ ، 1996م]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق