الخميس، 17 سبتمبر 2009

حدائق ذات أفنان ج1 ـ الرسائل : 3) (رسالة إلى كاتم الأسرار)

الرسالة الثالثة :
رسالة إلى كاتم الأسرار:

الحمد لله الكبير المتعال.. أمر بالاعتدال.. ونهانا عن الحيف والضلال.. القائل في كتابه العزيز.. حكاية عن نبي الله يعقوب عليه السلام.. عندما كان يوصي ابنه لما رأى رؤيا في المنام : { قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(يوسف: 5).. وأصلي وأسلم على إمام المسلمين.. وقائد الغر المحجلين.. نبينا ورسولنا الأمين..القائل:<< استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود>> (مجمع الزوائد ج8 ص195).. وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.. ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد..

ولي صاحب سرِّي المكتم عنده
محاريق نيران بليل تحرق
عطفت على أسراره فكسوتها
ثياباً من الكتَّان ما تتخرَّق
فمن تكن الأسرار تطفو بصدره
فأسرار نفسي بالأحاديث تغرق
فلا تودعنَّ الدهر سرك جاهلاً
فإنك إن أودعته منه أحمق
وحسبك في ستر الأحاديث واعظاً
من القول ما قال الأديب الموفق
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه
فصدر الذي يستودع السِّرَّ أضيق
يا أيها الإنسان.. الذي تاه في دنيا الخيال.. وعن الحق قد مال.. ومن المنكرات والمعاصي قد كال.. وعقله عن التفكير بالله قد جال.. ومن الأوزار الكثير قد شال.. ولسانه بالقبح قد سال.. ونسى أنه إلى زوال.. وأن الله يغير من حال إلى حال.. وأصبح يطلب من الدنيا المحال.. ولا هم عنده إلا تجميع الذهب والمال.. ولا فرق عنده بين الحرام والحلال.. ويعتقد أنه يبحث بذلك عن راحة البال.. وأنه بهذا سيصعد إلى مكان عال.. ولم يتوقع أنه سيكون عليه وبال.. وأن هناك يوم لا ينفع فيه بنون ولا مال.. وفيه من النكير وكثرة السؤال.. لا ينجو منها إلا من أتى الله سليم القلب وخالي البال.. أما من أتى الله بذنوب كالجبال.. فإنه يرميه في نار جهنم ولا يبالي.. هذه نصيحتي إليك على عجال.. من أخ في الله يخاف من يوم فيه الجنين قد هال.. وأملي أن لا ترميها في السلال.. لأنها لا تقدر بمال.. فاعلم هداك الله إلى خير حال.. أنه:
لا يكتم السر إلا كل ذي ثقة
والسر عند خيار الناس مكتوم
فالسر عندي في باب له غلق
ضاعت مفاتيحه والباب مختوم
لقد عجبت من إنسان.. يصبح مستودعاً لأسرار الآخرين.. فكل شخص.. لا يتحمل حمل سره.. ذهب إليه وأودعه سره.. وكل شخص.. أراد أن يخفف عن كاهله بعض الأثقال.. ويرمي من ظهره بعض الأحمال.. ركض إليه ورمى ما معه من حمل.. وكل شخص أعياه وأقض مضجعه.. ما اكتشف من أمر ألم به.. يمم وجهه شطر ذلك الإنسان العجيب.. حتى يغلق على تلك الهموم والأسرار مكنون بئره.. وسرداب عقله.. ويختم على شفتيه.. فلا يطلع عليها إنس ولا جان.. مهما أوتوا من قوة أو سلطان.. يردد مفتخراً..
وفتيان صدق لست أطلع بعضهم
على سرِّ بعض غير أني جماعها
يظلون في الأرض الفضاء وسرهم
إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها
لكل امرئ شعب من الأرض فارع
وموضع نجوى لا يرام اطلاعها
أيها الرجل العظيم.. إلى متى ستصبح مقبرة للأسرار العفنة.. والرؤى المستهلكة.. والأفكار المدمرة؟!!.. إلى متى ستكون مستودع للتناقضات.. والسموم الفتاكة.. والجراثيم المعدية؟!!.. إلى متى ستصبح حصالة للحمقى.. والمغفلين والجهلة.. يرمون فيها ما يشاؤون.. من مفاسد وضلالات.. تذيب الحياء.. وتقضي على المروءة.. وتقتل العفة.. وتمحق الفضيلة.. وتلغي الرجولة.. وتذيب الشهامة؟!!.. إلى متى ستصبح سلة مهملات.. تجمع كل ما تعفن وفسد.. وتحوي كل ما أهمل وانتهى.. ويرمي فيها كل من هب ودب.. قاذوراته وأوساخه؟!!.. لماذا تكون دائماً محل أنظار الفسقة.. وقبلة الفجرة.. ومحطة الجهلة.. واستراحة الحمقى.. ومخيم المنحطين؟!!.. لماذا تضع نفسك موضع التهمة.. وتوردها في مهالك الردى.. وتوقعها في مطبات المصائب والأهوال؟!!.. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :" من كتم سرَّه كان الخيار في يده ومن عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن"..
لا تفش سرك إلا إليك
فإن لكل نصيح نصوحا
فإني رأيت غواة الرجال
لا يتركون أديماً صحيحاً
أيها الرجل العظيم.. هل ستتحمل ما عجز عن تحمله غيرك؟!!.. أم هل ستصبر في ما لا طاقة لك فيه؟!!.. لماذا أرى إذن الذباب يحوم حول بيتك.. والبعوض مستلقِ في غرفتك؟!!.. ألا تخاف العدوى؟!!.. أم عندك مناعة؟!!.. ولكني أقول :
إذا المرء أفشى سره بلسانه
ولام عليه غيره فهو أحمق
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه
فصدر الذي يستودع السر أضيق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق