الأحد، 13 سبتمبر 2009

حدائق ذات أفنان ج1 ( دروس من الهجرة)

ذكر أصحاب السير أنه لما هاجر من هاجر إلى المدينة.. وتجهز أبو بكر للهجرة.. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : << على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي >> (صحيح البخاري ج2 ص804).. وفي رواية ..<< لعل الله أن يجعل لك صاحباً >>(مجمع الزوائد ج6 ص62) .. فحبس أبو بكر نفسه لعله يصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وعلف راحلتين عنده أربعة أشهر.. وفي وقت غير معتاد.. وفي هاجرة من النهار.. يطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم باب أبي بكر الصديق ويخبره.. بأن الله قد أذن له بالهجرة.. ويستأذن أبو بكر في الصحبة.. ويكون له ما أراد..
سلام على الصديق إذ هو لم يزل
لخير البرايا في الحياتين يصحب
وثانيه في الغار الخليفة بعده
لأمته نعم الحبيب المقرب
أجاب وقد صموا وأبصر إذ عموا
وصدق بالحق المبين وكذبوا

ويقوم بيت أبي بكر بإعداد زاد السفر.. وتشق أسماء بنت أبي بكر نطاقها لتوكئ جراباً من الطعام.. وتسمى من يومها بذات النطاقين.. وترسم الخطة.. فيطلب أبو بكر من ابنه عبدالله أن يأتي إلى الغار مساء.. يخبر بما تتحدث به قريش وتكيد.. ويطلب من مولاه وراعي غنمه عامر بن فهيرة.. أن يرعى قرب الغار.. لوظيفة مزدوجة.. حيث يشرب الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه من الألبان.. وتعفو الأغنام على آثار أقدام عبدالله بن أبي بكر وهو يصعد إلى الغار وينزل منه.. ويتم استئجار دليل ماهر اسمه عبدالله بن أريقط.. يدلهم على الطريق.. ومن ثم يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من على كرم الله وجهه.. أن ينام في فراشه تلك الليلة تعمية على القوم.. وإظهاراً لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لايزال في فراشه.. ولكي يقوم علي برد الودائع التي في بيته صلى الله عليه وسلم لأصحابها.. إذ أن أهل مكة كانوا إذا خافوا على أموالهم استودعوها رسول الله صلى الله عليه وسلم .. لما يعلموا من صدقه وأمانته..
ومن كعلي كرم الله وجهه
كريم به الأمثال في الجود تضرب
أخو الحلم بحر العلم حيدرة الرضا
إمام به صدع الهداية يشعب
هزبر ولكن صيده الصيد في الوغى
ومخلبه الرمح الأصم المكعب

لقد أحبط الله مؤامرة قريش لاغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم .. وينجو الرسول صلى الله عليه وسلم من تلك المحاولة الفاشلة.. ويرد الله كيد قريش في نحورهم..
كم عاندته قريش أول وهلة
سفهاً وكم نبزوه بالألقاب
وسموه مع صفة الجنون بكاهن
وبشاعر وبساحر كذاب

وينطلق الركب الذي يضم خير البرية صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبا بكر.. إلى حيث يكون غار ثور.. على بعد أميال من مكة باتجاه الطائف.. ويقيم فيه ثلاثاً.. ريثما ينقطع الطلب.. وييأس المشركون.. ولقد هاجت قريش هيجان الإبل وماجت.. كيف لا؟!.. والفرصة الثمينة في نظرهم قد ضاعت.. وتعلن قريش عن جائزة سخية مائة ناقة.. لمن يأتي بمحمد صلى الله عليه وسلم ويعيده إلى مكة.. ولكن الله خيب مسعاهم.. ولم ينالوا ما أرادوا..
ما بال مكة زلزلت زلزالها
والأرض فيها أخرجت أثقالها
والناس فوضى والمشاعر سعرت
وقلوبهم شتى ترى ما هالها؟
ماذا دهاهم؟ قد تناثر عقدهم
حباته انصدعت ولا رأب لها
أوثانهم تلك التي فتنوا بها
باتت بواراً يتقون زوالها
هاجوا وماجوا شاهرين سيوفهم
خانوا العهود حرامها وحلالها
السيل قد بلغ الزبى في مكة
ماذا ألم بها فغير حالها؟
هو ذلك "الأمي" يدعو جاهداً
"الله لا ند له" قد قالها
وحي السماء عليه ينزل منذراً
لا تعبد الأصنام بل تباً لها
هو ذلك "الدين الجديد" تأرقت
منه الجنوب ونالها ما نالها
دين تساوى الكل تحت لوائه
فاللون والأجناس لا وزن لها
دين: هي التقوى تميز أهله
والفضل فيه لمن تفيأ ظلها
دين : هي الشورى دعامة حكمه
دستوره القرآن سجل فضلها
والمسلمون غدت تزيد جموعهم
في "دار أرقم" باشرت أعمالها
كفار مكة إذ تناجوا أقسموا
أن ينقذوا الأصنام مما نالها
وغدوا على حرد يحرض بعضهم
بعضاً على من بات محتقراً لها
أتباع "أحمد" أصبحوا هدفاً لهم
كم من نفوس قطعوا أوصالها
هذا "بلال" أحكموا تعذيبه
فرد تحدى عصبة وضلالها
الله مولى "آل ياسر" إذ همو
قد أزهقت أرواحهم طوبى لها
كم من شهيد مؤمن ذاق الردى
من طغمة إبليس قاد عقولها
حتى أتى أمر السماء بهجرة
للمسلمين ليثرب فمشوا لها
خرجوا ثبات مؤمنين بدينهم
والكافرون ـ وبالأسى ـ فطنوا لها
فتآمروا وتجمعوا كي يقتلوا
"علم الهدى" في داره أو حولها
و"علي" يكمن في فراش "محمد"
في جرأة كان الفداء سبيلها
خرج النبي عليهمو فإذا بهم
في غفوة من نومة يرثى لها
صحب النبي "صديقه" في رحلة
لا زالت الدنيا تردد فضلها
في "غار ثور" قد حماه إلهه
من عصبة للشرك قص حبالها
هذي "الحمامة" قد أقامت عشها
بالباب ما أحد إذن قد نالها
و"العنكبوت" نسيجها يحكي لهم
أن الإقامة فيه لا معنى لها
والله "ثالث" صاحبين تآلفا
في الغار يحمي النفس يصلح بالها
يا "غار ثور" كنت لغزاً صامتاً
بل آية تروى بلا مثل لها
وقريش ماجت بل وجن جنونها
أغرت "سراقة" أن يكون دليلها
أوصته أن ينساب خلف "محمد"
ليرده قسراً فتشفى غلها
مهلاً "سراقة"! إنه "خير الورى"
فهو ابن بجدتها ومن يرجى لها
والله عاصم "عبده" قد صانه
في كل ضائقة يمر خلالها
غاصت قوائم مهرة لسراقة
ما خطبها؟ شد الإله عقالها
أنصت سراقة : سوف تمنح آجلاً
من ملك كسرى منحة ترضى لها
ستكون يوماً ضمن جيش مسلم
تمشي لنصرته غداً تسعى لها
يا دهر أنصت! يا صحارى سجلي
بشرى "أمين" واثق قد قالها
والفارس المغوار يرجع هائماً
نفس بها شيطانها يملي لها
هان الرهان وعاد تألم نفسه
من فعله هدامة تعساً لها
هذا "رسول الله" جاء ليثرب
والله أوصل بالرسول حبالها
صار المهاجر "للمقيم" أخاً له
والكل أعطى للرسالة مالها
والنصر أضحى حلف قوم بايعوا
رب الحنيفة أن يظلوا حولها
شمس الحقيقة أشرقت من يثرب
فأضاءت الدنيا جميعاً كلها
والله قيض للحنيفة هجرة
مهما أقول فلن أوفي فضلها
والمسلمون بدا بها تاريخهم
ذكرى جهاد مثمر يعزى لها
طوبى لرائدها محقق فضلها
طوبى لنفس حطمت أغلالها
الله مولى المؤمنين يعزهم
لكن دار الكفر لا مولى لها
الله أقسم أن يتم نوره
للمسلمين كأمة أوحى لها
أوحى لها القرآن دستوراً لها
يثرى ويصلح دائماً أحوالها

ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة.. يقطع البيد والفيافي.. تحيطه عناية الله وترعاه.. بعد أن ودع مكة قائلاً : << والله إنك لأحب البلاد إليَّ ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت >>(مجمع الزوائد ج3 ص283)..
الدهر لا زال يقظاناً يحدثني
حديث أفضل رهط في الدنى ارتحلوا
في جنح ليل وعين الله تكلؤهم
مما يحاك وحقد القوم يشتعل
والشرك في مكة يغري جحافله
بالنور والنور يسطع في الدنا ويكتمل
هم أجمعوا أمرهم والغدر يدفعهم
كي يطمسوا الحق في مكر وقد فشلوا
والنور لن ينطفي مهما هم نفخوا
فيه بأفواههم.. بل ساء ما فعلوا
وانسل خير بني حواء مدرعا
بالليل.. والليل فوق الكون منسدل
لم يبصروه ولم يمنع تربصهم
أن ينثر التراب فوق الهام إذ غفلوا
واستقبل الغار من يسمو بدعوته
إلى الجنان بمن لبوا ومن قبلوا
خاف الرفيق على الهادي وقد وقفوا
على فم الغار والكفار قد جهلوا
لكن "دعوة إبراهيم" في ثقة
يضفي الأمان فلا خوف ولا وجل
يقول للصاحب المفزوع ليس على
مثلي ومثلك يوماً تظهر الحيل
ماذا تظن ونحن اثنان ثالثنا
الله.. إنا على الرحمن نتكل
ورد كيد بني الكفار وانقلبوا
بالخزي لم يجدهم عزى ولا هبل
ودوت الدعوة الكبرى مجلجلة
الله أكبر.. إن الظلم منخذل

ووصل إلى مشارف المدينة ـ قباء ـ .. حيث نزل على كلثوم بن الهدم.. وأسس فيها مسجد قباء.. وبعد أيام من إقامته صلى الله عليه وسلم .. تابع سيره تجاه المدينة راكباً ناقته القصواء .. والناس معه عن يمينه وعن شماله.. فرحين مستبشرين وينشدون :
طلع البدر علينا
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا
جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة
بالهدى يا خير داع
قد لبسنا ثوب عز
بعد تمزيق الرقاع
ربنا صل على من
حل في خير البقاع

ويعترضه الأنصار.. حيث لا يمر بدار من دورهم.. إلا ويطلبون منه أن ينزل حيث المنعة والقوة.. فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم : << دعوها فإنها مأمورة >>(مجمع الزوائد ج6 ص63) .. إلى أن بركت في الموضع الذي أقيم فيه المسجد النبوي.. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أبي أيوب الأنصاري.. وكان يوم قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة.. يوماً مشهوداً.. أضاءت له جنبات المدينة.. ولم تر يوماً خيراً منه..
لو لم تكن فيه آيات مبينة
لكان منظره ينبئك بالخبر

هذه نبذة قصيرة عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم .. ولكن الذي يهمنا أكثر في حادثة الهجرة.. هو ما انطوت عليه الهجرة.. من سمو الفكرة.. وصدق الجهاد.. وعمق الإيمان.. وقوة اليقين..
وما يهمنا أيضاً .. الدروس والعبر المستفادة من حادثة الهجرة..
من لم تفده عبر أيامه
كان العمى أولى به من الهدى

إن طلوع هلال شهر محرم من كل عام.. ليعيد إلى ذاكرة الأمة الإسلامية.. في مشرقها ومغربها.. ذكريات مضاءة بالنور والأمل.. والبطولة والأمجاد.. والتضحية والإيثار.. ذكريات تحمل في طياتها.. تحرير الإنسانية من الخوف.. والظلم والظلام .. والعبودية والاسترقاق..
عباد ليل إذا جن الظلام بهم
كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم
هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً
يشيدون لنا مجداً أضعناه

فبينما كان العالم يموج في ظلمات بعضها فوق بعض.. ويغرق في طوفان من الأطماع والأحقاد.. والجور والسفه.. والطيش والظلم.. حيث الحقوق مهدرة.. والحريات مقيدة.. والكرامة مهانة.. وبينما الحال كذلك.. أشرقت على العالم.. أنوار البعثة المحمدية.. وسرت في الكون.. أنسام السلام.. وغردت الحمائم.. تشدو بمقدم نور الظلام.. ومسك الختام.. الذي يحمل إلى الكون دين الإسلام.. { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107)..
بمدرسة النبي نما شباب
عباقرة لهم في الخلد ذكر
صحائفهم على الأجيال تتلى
وليس وراء ما صنعوه فخر
سجود ركع عند المصلى
وحين الحرب أبطال تكر

ولقد تجمعت في رسالته.. إشراقات الروح.. تطوف من خلالها بالملأ الأعلى.. وتتصل بخالق الإنسان.. لتنهل الروح من ينابيع الرحمة الإلهية.. وما يجعلها آمنة مطمئنة.. يحوطها بالنور والجلال.. ويغذيها بالخير والكمال.. ويجنبـها الشقاء والضلال.. يقول تعالى: { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } (طه:123)..
ملكنا هذه الدنيا قروناً
وأخضعها جدود خالدونا
وسطرنا صحائف من ضياء
فما نسي الزمان ولا نسينا
حملناها سيوفاً لامعات
غداة الروع تأبى أن تلينا
إذا خرجت من الأغماد يوماً
رأيت الهول والفتح المبين

ولكن ذلك لم يرق لأهل الكبر والجبروت.. خوفاً من زلزلة عروشهم.. وتهدم صروحهم.. وفرقاً من زوال هيمنتهم على المستضعفين.. الذين استخفوا بهم.. فأعلنت قريش للرسول صلى الله عليه وسلم ولصحابته.. الحرب والعداء.. وآذوهم بما يملكونه من أصناف التعذيب أشد الإيذاء.. والمؤمنون على ذلك صابرون.. ولما عند الله راجون.. ولوعده منتظرون.. حتى جاء الفرج.. فأذن الله للمؤمنين بالهجرة إلى المدينة المنورة.. يقول الله تعالى: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } (الأنفال :30)..
أسرت قريش مسلماً
فمضى بلا وجل إلى السياف
سألوه هل يرضيك أنك سالم
ولك النبي فدى من الإتلاف
فأجاب كلا لا سلمت من الردى
ويصاب أنف محمد برعاف

إننا نرى في الهجرة ومراحل تنفيذها.. القوة الروحية العارمة.. البعيدة عن ماديات الحياة.. التي تثاقل بالأجسام فتقعدها.. إنها قوة روحية.. تناسى فيها صاحبها الدنيا وما عليها.. والوطن وما له من حنين.. وجاد بالنفس.. إذ حملها على كفه أمام المتربصين.. وذلك أعز وأغلى أنواع الجود.. وأقسى ضروب الجهاد.. ولقد تجلت أسمى صور التضحيات في الصحابة الكرام.. عندما نادى منادي الهجرة.. فاستضاءت قلوبهم.. وتواصوا بالحق.. وخرجوا سراعاً.. مضحين بكل ما يملكون.. في سبيل تأكيد هذه المعاني النبيلة.. وفي ذلك نزل في بعضهم قوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ } (البقرة: 207).. فاستطاعوا أن يضيئوا الضمير الإنساني.. بحقيقة التوحيد.. ويمحوا منه إلى الأبد وثنية القرون..
فكلهم من رسول الله ملتمس
غرفاً من البحر أو رشفاً من الدين

إذن فالهجرة النبوية.. ليست قصة تروى.. ولا حكاية يتسلى بها.. ولا كتاب للتصفح والتسلية.. وليست أسطورة نتلوها في المحافل.. أو نتناقلها في المنتديات.. أو نتدارسها في الأمسيات..
ومن قومهم قوم إلى الله هاجروا
وخلوا معاني دورهم وتغربوا
وراضوا على حب الحبيب نفوسهم
فكان لوجه الله ذاك التقرب

وليست الهجرة.. هروباً من مكان إلى مكان.. ولكن هجرة الرسول الله صلى الله عليه وسلم .. انطلاقه بفكرة من مكان محدود إلى مكان فسيح.. يجد فيه الداعي الأرض الخصبة.. والموطن الرحب.. والإقبال على دعوته التي يدعو إليها.. ويتفانى في سبيل نشرها.. لأنها دعوة الحق.. والأمان والسلام للإنسانية بأسرها.. من مشرقها إلى مغربها.. قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ } (النساء : 170)..
إن البرية يوم مبعث أحمد
نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من
خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة
جبت الكنوز فكسرت أعلامها
لما رآها الله تمشي نحوه
لا تبتغي إلا رضاه سعى لها

كما أن هجرته صلى الله عليه وسلم وصحابته.. ليست تبرماً أو تضجراً من شظف الحياة المادية.. أو نغص المعيشة.. ولا هي انتجاعاً وبحثاً عن الأماكن الخصبة.. بل ليست من أجل غرض دنيوي.. ولا فراراً من خطر على نفس أو مال.. لكنها هجران مجتمع يموج بالكفر والطغيان..
كم عاندته قريش في نبوته
وكم أضافوا إليه السحر والكذبا
وضلة نبزوه بالجنون ولم
يبقوا لأسمائه من ضدها لقبا

والذي يعنينا في حديثنا هذا.. هو ما انطوت عليه هذه الهجرة.. من سمو الفكرة.. وصدق الجهاد.. وعمق الإيمان.. وقوة اليقين.. فهي الحادث الجلل.. والموقف التاريخي العظيم.. الذي زخر الكون بدروسه وعبره.. وكان سبباً لطي صحائف التبعية.. وفتح آفاق الحرية والانطلاق.. وظهور حضارة تنطلق إلى كافة أرجاء المعمورة.. تنشر العدل والخير والسلام والأمن والأمان.. وتخرج الناس جميعاً من ظلمات الجهل.. إلى نور الإسلام الساطع.. وهدي القرآن الواضح.. وطريق الدين القويم..
ملوك حرروا الأوطان حرباً
من الأعداء في سحق الجنود
ونالوا بالجهاد مقام عز
على التاريخ يبقى في جديد
وشادوا دولة في الحب تسمو
وبالأخلاق والعدل السديد
أعلوا في الورى ديناً قويماً
أتى للناس بالحكم الرشيد
أعزوا أمة القرآن حقاً
بإيمان وإخلاص أكيد

فالغرض من الهجرة.. أن ننظر إلى جوهرها وما تهدف إليه.. من أن سلاح الحق أمضى من أي سلاح.. وأن من استعان بالله فلن يذل لسواه.. وأن النصر مع الصبر.. وأن الكرب إذا اشتد هان.. وأن الله مع المؤمنين ناصرهم ومؤيدهم.. فالله تعالى يقول: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } (الطلاق :2ـ3)..
أيا تاريخ ما اعتدنا السجودا
لغير الله أو كنا عبيدا
لئن دار الزمان وراح شعبي
مع الحرمان يقتات الوعودا
فما زادته أحداث الليالي
وألوان الأسى إلا صمودا

ففي ظلال الإسلام.. جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حول مائدة القرآن.. رجالاً ونساء.. شيباً وشباباً.. صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث فيهم الأمل.. ويربطهم ويؤاخي بينهم برباط العقيدة.. ويحث على التعاون.. وينشر الفضائل.. ويحارب الرذائل.. وينفذ شريعة الله .. ووجدت هذه المبادئ.. نفوساً مطمئنة.. صدقت الله.. وسارت خلف رسول الله.. لتؤسس دولة الإسلام.. وهي ترى.. الموت أرخص ما تقدمه.. والتضحية أحلى ما تبذله.. والشهادة أشرف ما تختم به الحياة..
ولست أبالي حين أقتل مسلماً
على أي شق كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع

لقد كانت الهجرة.. مدرسة التربية الإنسانية.. فجرت في قلب الأمة أغزر ينابيع الرحمة والنبل.. فانطلق فيهم صوت الأخوة والتعاطف.. والتراحم والإيثار..
هذا " رسول الله" جاء ليثرب
والله أوصل بالرسول حبالها
صار المهاجر للمقيم أخاً له
والكل أعطى للرسالة مالها
والنصر أضحى حلف قوم بايعوا
رب الحنيفة أن يظلوا حولها
شمس الحقيقة أشرقت من يثرب
فأضاءت الدنيا جميعاً كلها

وما أحوج أمتنا اليوم.. إلى تلك المبادئ السامية.. والقيم السامقة.. فلو أصبحت هذه المبادئ شعار الحياة.. فسيختفي الغل والحقد.. والبغضاء والحسد من الوجود.. ليحل محله.. الود والصفاء.. والمحبة والأخوة.. فيكون المجتمع.. مجتمعاً أساسه التفاضل فيه تقوى الله.. والعمل الصالح.. يلتقي أفراده على دروب الخدمات الإنسانية.. الغني يعطف فيها على الفقير ويسانده.. والقوي يأخذ بيد الضعيف ويساعده.. رائدهم في ذلك.. قول الله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } (الحجرات : 10).. ناهيكم بأن الله تعالى.. يهيأ لعباده المؤمنين الأسباب.. ويمدهم بالعون والتأييد.. ليظهر دينه.. ولو كره الكافرون.. كما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة المباركة.. من مكة إلى المدينة المنورة.. يقول تعالى: { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (التوبة : 40)..
عدمنا خيلنا إن لم تروها
تثير النقع موعدها كداء
يبارين الأعنة مصعدات
على أكتافها الأسل الظماء
تظل جيادنا متمطرات
تلطمهن بالخمر النساء
وجبريل أمين الله فينا
وروح القدس ليس له كفاء
لنا في كل يوم من معد
سباب أو قتال أو هجاء
فنحكم بالقوافي من هجانا
ونضرب حين تختلط الدماء

ونتعلم من دروس الهجرة.. البذل الذي بذلوه.. والعناء الذي احتملوه.. والفوز الذي أحرزوه.. والدور الجليل الذي نهضوا به.. لتحرير البشرية كلها.. من وثنية الضمير.. وضياع المصير.. فالعظمة الباهرة التي نراها.. في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وفي أصحابه.. ليست أساطير.. أو من نسج الخيال.. أو من تأليف الكتاب.. بل إنها حقائق.. تشكل كل ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ومن أصحابه.. من تضحية وجهاد.. وإنها لتسمو وتتألق.. لا بقدر ما يريد لها الكتاب والواصفون.. بل بقدر ما أراد لها أصحابها وذووها.. وبقدر ما بذلوا في الهجرة إلى الحبشة والمدينة.. وبقدر ما بذلوا في سبيل الله من جهد خارق مبرور.. من أجل إعلاء كلمة الحق.. ورفع راية الإسلام..
ملكنا فكان العدل منا سجية
فلما ملكتم سال بالدم أبطح
وحللتم قتل الأسارى وطالما
غدونا على الأسرى نمن ونصفح
فحسبكم هذا التفاوت بيننا
وكل إناء بالذي فيه ينضح

إن حادث الهجرة في الإسلام.. له شأن عظيماً.. وذلك أن المسلمين عندما أرادوا أن يجعلوا لهم تاريخاً إسلامياً.. جمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحابة الكرام.. فلم يجدوا حدثاً أجل وأعظم من حادث الهجرة النبوية..
كانوا رعاة جمال قبل نهضتهم
وبعدها ملؤوا الآفاق تمدينا
لو كبرت في ربوع الصين مئذنة
سمعت في الغرب تهليل المصلينا

ومن جانب آخر.. فقد غيرت الهجرة وجه التاريخ.. وقلبت موازين الباطل.. فما أحوجنا إلى الهجرة من الباطل إلى الحق.. ومن الضلال إلى الهدى.. ومن الظلام إلى النور.. ومن الفساد إلى الصلاح.. ومن الرذيلة إلى الفضيلة.. ومن الظلم إلى العدل.. ومن الغش إلى النصح.. ومن الكذب إلى الصدق.. ومن الغدر إلى الوفاء.. ومن الملق إلى الصراحة.. ومن الذل إلى العز.. ومن الرياء والنفاق إلى الإخلاص لله رب العالمين..
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم

فالهجرة النبوية.. تجمع معاني التضحية في سبيل الحق.. فذكراها تنمي في النفوس الشعور الحي الحافز لها.. إلى استسهال القيام بصنوف التضحية في سبيل الإسلام.. والاستمساك بتعاليم الإسلام.. والاعتزاز بعز الإسلام.. وتذكي نار الحماس في الصدور.. ضد كل من يحاول التلاعب بتعاليم الإسلام ومبادئه.. وتغرس في القلوب.. الإباء والشمم.. وعلو الهمم.. عن الخنوع لأعوان الشيطان.. وكل منافق عليم اللسان ..
ومن الذي باع الحياة رخيصة
ورأى رضاك أعز شيء فاشترى

وما اهتمام المسلمين بالهجرة النبوية.. إلا لاستنهاض الهمم.. وتذكير أفراد الأمة.. بواجبهم نحو أنفسهم.. ونحو بيوتهم.. ونحو إخوانهم.. ونحو دينهم ووطنهم.. لينهضوا جميعاً.. لتقويم الأود.. وإصلاح الفساد.. ورأب الصدع.. بما يرضي الله ورسوله وجماعة المسلمين.. وفي استعادة مجد الإسلام والمسلمين.. وصون هذا الدين.. من تحريف الغالين.. وانتحال المبطلين.. وتأويل الجاهلين.. وعبث العابثين.. والله سبحانه وتعالى يقول : { وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } (التوبة: 105)..
إذا ذهب الكلام مع الرياح
ورقص الغافلون على النباح
ومزق جلدنا حمم الجراح
وصار البغي بالكفر البواح
ونقضي الليل في هم الصباح
وقال الإفك : غنوا في انشراح
فصبراً يا رجال الله صبراً
سيعلو صوت حي على الفلاح

واحرص أخي القارئ.. على الاهتداء بهدي سلفك الصالح.. علماً وعملاً.. وهداية وإرشاداً.. حتى يصدق فيك.. قول الله سبحانه وتعالى: { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } (الحشر: 10)..
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب
ولا لعباً مني وذو الشَّيب يلعب
ولم يلهني دار ولا رسم منزل
ولم يتطرَّبني بنان مخضَّب
ولا السانحات البارحات عشيَّة
أمرَّ سليم القرن أم مرَّ أعضب
ولكن إلى أهل الفضائل والنُّهى
وخير بني حواء والخير يطلب
إلى النَّفر البيض الذين بحبِّهم
إلى الله فيما نابني أتقرَّب

وفي الختام أقول.. لجدير بنا معاشر المسلمين.. أن نستلهم من تلك الدروس.. منهاج حياة.. نسير على نهجه.. ونقتفي أثره..
فلنرجع اليوم للإسلام يرفع من
خسيسة هبطت بالناس إذ نزلوا
مهاجرين نواهي الله.. زخرفها
إن يعل بالقوم في أمر فقد سفلوا
إن الكتاب وما سن الرسول لنا
هما السبيل إذا اعوجت السبل

لأن الهجرة اليوم.. لم يبق منها إلا جهاد النفس.. والعمل على نشر تعاليم الإسلام ومبادئه.. مما يستدعي ونحن نحتفي بسنة هجرية جديدة.. أن ننفتح على المجتمع الإنساني.. بعقلانية المسلم الواعي.. المدرك لحقائق الحياة.. والمتمسك بتعاليم القرآن .. والسنة النبوية المطهرة.. وأن نأخذ بأسباب الحياة المختلفة.. علماً وعملاً..
شريعة الله للإصلاح عنوان
وكلُّ شيء سوى الإسلام خسران
لما تركنا الهدى حلت بنا محن
وهاج للظلم والإفساد طوفان
تاريخنا من رسول الله مبدؤه
وما عداه فلا عزٌّ ولا شان
محمد أنقذ الدنيا بدعوته
ومن هداه لنا روح وريحان
لا خير في العيش إن كانت مواطننا
نهباً بأيدي الأعادي أينما كانوا
لا خير في العيش إن كانت عقيدتنا
أضحى يزاحمها كفر وعصيان
ها قد تداعى علينا الكفر أجمعه
كما تداعى على الأغنام ذئبان
وهكذا.. عاماً بعام.. حتى يتحقق لجيلنا.. إكمال حضارة الإسلام.. من حيث انتهت رسالة من سبقنا.. والسعي لتوجيه أنفسنا.. في هذا الطريق.. ولهذه الغاية.. وللهدف المنشود.. { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } (العنكبوت : 69)..
كذلك أخرج الإسلام قومي
شباباً مخلصاً حراً أميناً
وعلمه الكرامة كيف تبنى
فيأبى أن يقيد أو يهانا
دعوني من أمان كاذبات
فلم أجد المنى إلا ظنونا
وهاتوا لي من الإيمان نوراً
وقووا بين جنبي اليقينا
أمد يدي فأنتزع الرواسي
وأبن المجد مؤتلقاً مكينا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق