الخميس، 17 سبتمبر 2009

حدائق ذات أفنان ج1 ـ الرسائل : 5) (رسالة إلى صديق)

الرسالة الخامسة :
رسالة إلى صديق:

الحمد لله الذي جمع بالقرآن القلوب المتنافرة.. وأحيا به الضمائر الغارقة.. والذي يحب الكلمة الطيبة.. ويكره الكلمة الخبيثة .. لأن الكلمة الطيبة تؤلف بين القلوب.. وتقرب إلى علام الغيوب.. { مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (فاطر: 10).. وأشهد أن لا إله إلا الله.. وحده لا شريك له.. يدعو إلى المحبة والوئام وحسن الكلام.. القائل : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (الحجرات : 10).. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وسيد الأنام.. القائل : << إن أحدكم مرآة أخيه فإن رأى به أذى فليمطه عنه>> (سنن الترمذي [1929] ج4 ص325) والقائل : << عليكم بإخوان الصدق فإنهم زينة في الرخاء وعصمة عند البلاء>> (الأخبار والآثار ج1 ص79) .. صلى الله عليه وسلم وبارك.. وعلى آله الطيبين الطاهرين.. ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد..

فاعلم يا أخي العزيز..
إذا المرء لا يرعاك إلا تكلُّفاً
فدعه ولا تكثر عليه التأسفا
ففي الناس أبدال وفي الترك راحة
وفي القلب صبر للحبيب ولو جفا
فما كلُّ من تهواه يهواك قلبه
ولا كل من صافيته لك قد صفا
إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة
فلا خير في ودٍّ يجيء تكلُّفا
ولا خير في خلٍّ يخون خليله
ويلقاه من بعد المودة بالجفا
وينكر عيشاً قد تقادم عهده
ويظهر سراً كان بالأمس قد خفا
سلام على الدنيا إذا لم يكن بها
صديق صدوق صادق الوعد منصفا


أخي في الله.. أحييك بتحية الإسلام .. تحية أهل الجنة في الجنة .. تحية المؤمنين الصادقين .. فالسلام عليك ورحمة الله وبركاته.. لقد وصلتني رسالتك الكريمة.. فغمرتني بالراحة والسرور.. والطمأنينة والحبور.. ولكن عكر صفو فرحتي.. بعض الأمور.. حيث استنبطت من رسالتك.. إنك تعيش في جو من الآلام والأحزان .. وهذا لا ينبغي من أمثالك.. ممن يتصفون برجاحة العقل.. وسعة الصدر.. وحسن المنطق.. وإني على يقين.. بأنك قادر على تحمل أعباء كل المشكلات والمعضلات.. وعلى إذابة كل الصعاب والمحن.. وهذا حسن ظني فيك.. وأرجو أن تعتبرها مجرد سحابة صيف.. ستنقشع وتزول..
دع المقادير تجري في أعنتها
ولا تبيتن إلا خالي البال
ما بين غمضة عين وانتباهتها
يغير الله من حال إلى حال


واعلم أخي العزيز.. أن كل مؤمن مبتلى في حياته.. فهذه الدنيا دار اختبار.. لا ينجح فيها إلا من له قلب طاهر نقي.. كطهر الملائكة.. ونقاء الأنبياء والمرسلين.. وعرف ربه.. فعبده حق عبادته.. وقد قال الله تعالى.. في كتابه العزيز.. في سورة العنكبوت : {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت:2ـ3) .. فالإنسان في هذه الدنيا يا أخي العزيز.. يكون اختباره على حسب إيمانه.. فكلما زاد إيمان المرء.. زاد ابتلاؤه واختباره.. ولا يصمد إلا صادق الإيمان.. نتمنى من الله أن نكون من ضمنهم.. ومن المثال يتضح المقال : فمثلاً طلاب المدارس.. فإنهم في كل سنة ينتقلون.. من فصل إلى فصل.. أعلى منه مستوى ودراسة.. ولا ينتقل إلا الطالب المجتهد.. المثابر المخلص.. في عمله وواجبه ودراسته .. فيتعدى الفصول.. فصلاً تلو فصل.. ويتعدى المراحل.. مرحلة بعد مرحلة.. وكلها اختبارات في اختبارات.. ولا يصمد فيها ـ وكما قلنا سابقاً ـ إلا المجد المجتهد.. ثم بعد الانتهاء من مرحلة المدرسة.. ينتقلون إلى المرحلة المتقدمة.. ـ أي المرحلة الجامعية (دبلوم أو بكالوريوس ) ـ والعدد يقل ثم الدراسات العليا.. ( ماجستير ) .. فالدكتوراه.. ثم الأستاذية.. وهكذا نجد إن نسبة ضئيلة جداً تصل إلى هذا الحد.. من التفوق والنجاح..
كيف يرجوا من به كسل
نيلما قد ناله الرجل
من يريد العز يطلبه
في دروب ما بها سهل

فكذلك المؤمنون.. فإن نسبة قليلة تجتاز الاختبار الإلهي.. { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سبأ: 13).. { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} (ص: 24).. نسأل الله أن نكون منهم..
اصبر على مضض الإدلاج في السحر
وفي الروح إلى الحاجات والبكر
لا تجزعن ولا يضجرك محبسها
فالنجح يتلف بين العجز والضَّجر
إني رأيت وفي الأيام تجربة
للصبر عاقبه محمودة الأثر
وقل من جد في أمر يحاوله
فاستصحب الصبر إلا فاز بالظفر


والإنسان يا أخي الحبيب.. إذا وصل إلى درجة كبيرة من الإيمان بالله.. وامتلأ وتشبع قلبه بالإيمان.. فإنه سيصبح على يقين.. بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه.. وأن ما أخطئه لم يكن ليصيبه.. فيعيش في كلا الحالتين.. في رضى وسعادة.. بما قسمه الله له في الحياة الدنيا.. وهذا هو الفرق بين المؤمن والكافر عند حدوث المصيبة.. فالمؤمن يحس بسعادة ورضا بما قدره الله.. والكافر يحس بحزن وضيق وتشاؤم وعبوس وقنوط.. فالإيمان بالقضاء والقدر.. هي القاعدة التي يجب أن يثوب إليها المؤمن.. في كل أمر ألم به سواء خير أو شر.. والتي يجب أن يسير على نهجها في هذه الحياة.. ولا يتزحزح عنها قيد أنمله..
لما رأيتك قاعداً مستقبلاً
أيقنت أنك للهموم قرين
فارفض بها وتعرَّ من أثوابها
إن كان عندك للقضاء يقين
ما لا يكون فلا يكون بحيلة
أبداً وما هو كائن سيكون
يسعى الذكيُّ فلا ينال بسعيه
حظاً ويحظى عاجز ومهين
سيكون ما هو كائن في وقته
وأخو الجهالة متعب محزون

وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم .. أن كل ما يصاب به المؤمن.. من شر أو مصيبة ثم يصبر عليها.. محتسباً أمره إلى الله سبحانه وتعالى.. يجازى على إثر ذلك.. بالثواب الجزيل.. والأجر العظيم.. ففي الحديث: << ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه >> (صحيح البخاري [5318] ج5 ص2137).. كذلك يجب أن لا تُثبطنا المشكلات والمصائب.. وتجعلنا نعيش في سجن الأحزان والآلام.. وترمينا في بحر من التشتت والأوهام.. وتبعدنا عن مخالطة الأنام.. وتكمشنا عن ممارسة أعمالنا وواجباتنا.. بل يجب أن تعطينا هذه المشاكل.. الدافع القوي.. للتحدي والإصرار.. وعدم اليأس والقنوط.. ونكون دائماً.. متفائلين بتوفيق الله.. ونصره لنا.. لأن كل هذه المصائب.. التي ألمت بنا.. إنما تعتبر غسيلاً لخطايانا.. وتكفيراً لذنوبنا.. وليكن نصب عينيك.. حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : << ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وفي ماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة>> (صحيح ابن حبان [2924] ج7 ص187)..
إذا اشتملت على اليأس القلوب
وضاق بما به الصدر الرحيب
وأوطنت المكاره واطمأنت
وأرست في أماكنها الخطوب
ولم تر لانكشاف الضُّر نفعاً
وما أجدى بحيلته الأريب
أتاك على القنوط منك غوث
يمن به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات وإن تناهت
فموصول بها فرج قريب

والمشكلات التي تعاني منها.. وتعصرك بالآلام والأحزان.. وتبعدك عن مشاركتنا في أعمالنا.. وفي حياتنا اليومية.. فإني أدعو الله أن يزيلها عنك.. ـ وكما قلت لك سابقاًـ إذا وضعت هذه المشكلات.. في تلك القاعدة.. فإنها تصبح من السهولة بمكان.. معالجتها والقضاء عليها.. والمؤمن مبتلى.. والله سبحانه وتعالى قد أحبك.. فابتلاك بالمشكلات.. ليعلم مدى صدق إيمانك.. وتوكلك عليه.. وهل على إثر هذه المصائب والمشكلات.. قد أصبت بضجر أو سأم.. أو قنوط أو ملل.. هذه كلها اختبارات.. وكما قلت : إن الله سبحانه وتعالى.. إذا أحب عبده ابتلاه واختبره.. وقد جاء في السنة النبوية المطهرة.. على صاحبها أفضل الصلوات والتسليم.. إنه قال : << عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له>> (صحيح مسلم [2999] ج4 ص2295)..
لا تعجلن فربما
عجل الفتى فيما يضره
فالعيش أحلاه يعو
د على حلاوته بمره
ولربما كره الفتى
أمراً عواقبه تسره

فهذا الحديث الشريف.. يدل على أن كل الأمور الحادثة على المرء.. سواء كانت خيراً أو شراً.. فإنها تنصب في النهاية في مصلحة المؤمن.. إذا شكر النعمة.. وصبر على المصيبة.. أما إذا ضجر من المصيبة.. أو لم يشكر نعم الله عليه.. فإنها تصبح في غير صالحه.. ويلاقي من الله الجزاء.. لقوله صلى الله عليه وسلم : << إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط >> (سنن الترمذي [2396] ج4 ص601).. وفي حديث آخر.. قال عليه أفضل الصلاة والسلام: << إذا أراد الله بعبده الخير عجل في الدنيا وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة >>(سنن الترمذي [2396] ج4 ص601).. وكما عودتنا دائماً.. بطول البال.. وسعة الصدر.. والنظرة الشاملة.. فمثل هذه الأمور ستزول بإذن الله..
اصبر لكل مصيبة وتجلد
واعلم بأن المرء غير مخلد
واصبر كما صبر الكرام فإنها
نوب تنوب اليوم تكشف في غد
وإذا ذكرت مصيبة تشجى بها
فاذكر مصابك بالنبي محمد


واعلم أخي العزيز.. أن على الإنسان.. إذا أصابته مصيبة.. أن يستعين بالله أولاً.. ثم بعد ذلك.. يقوم بدراسة وتحري عن المشكلة.. ومعرفة الأسباب.. والحلول الكفيلة والناجعة لإصلاح هذا الخلل.. ثم بعد ذلك.. يكون عليه تطبيق الحلول المستنتجة والمقترحة.. وكذلك على الإنسان.. أن يستشيـر من هم أكثر منه.. قدرة وخبـرة.. في حـل مثل هذه المشكـلات والمعضلات.. ممن يثق في إخلاصهم.. ويطمئن لصدقهم.. فيحاولوا أن يستنبطوا الحلول المناسبة للمشكلة.. فإنه إذا اجتمعت مجموعة من العقول.. فإنه بإذن الله سيجدون الحل المناسب.. ومعرفة الداء يتطلب معرفة الدواء.. وفي الختام أقول :
لا تسألن بني آدم حاجة
وادع الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله
وبني آدم حين يسأل يغضب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق