الأحد، 13 سبتمبر 2009

حدائق ذات أفنان ج1 ( الوقت الضائع بدل الضائع)

لقد عُني الإسلام عناية بالغة بالوقت والزمن .. فلا يعرف قيمة الزمن إلا الموفقون الصالحون.. ولا يدرك قدر الوقت إلا العاملون المجدون المخلصون.. فالزمن.. هو حياة الإنسان وعمره.. الذي هو أنفاس تتردد وتتعدد.. وآماله التي تضيع إن لم تتحدد..
كفى زاجراً للمرء أيام دهره
تروح له بالواعظات وتغتدي

إن الوقت هو أغلى ما يملكه الإنسان في هذه الحياة وأثمنها.. فإن كل شيء يضيع من مال.. أو يفقد من عيال.. قد يعوض هذا الفقد.. ولكن الساعة التي تمضي من الحياة.. تذهب إلى حيث لا ترجع إلى يوم القيامة..
نخطو وما خطونا إلا إلى الأجل
وننقضي وكأن العمر لم يطل
والعيش يوذننا بالموت أوله
ونحن نرغب في الأيام والدول
يأتي الحمام فينسى المرء منيته
ونستقر وقد أمسكن بالطول
لا تحسب العيش ذا طول فتتبعه
يا قرب ما بين عنق المرء والكفل
سلى عن العيش إنا لا ندوم له
وهون الموت ما نلقي من العلل
لنا بما ينقضي من عمرنا شغل
وكلنا علق الأحشاء بالعزل
ونستلذ الأماني وهي مردية
كشارب السم ممزوجاً مع العسل

ودقات قلب المرء في صدره.. تشعره في كل لحظة بأن الحياة تمر به متتالية متتابعة.. في أيامها وأعوامها.. كلما ذهب منها شيء.. ذهب معها عمره.. حتى ينتهي به ذلك إلى الدار الآخرة.. شقي أم سعيد.. { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ } (105 ـ 108)..
حياة ابن آدم مهما تطول
خيال يمرُّ كلمح البصر
فيولد صبحاً وظهراً يعول
وعصراً يوارى فيمسي أثر
وما العيش إلا منام قصير
وما الدهر للناس إلا سير
فتقوى الإله وصنع الجميل
لأقوام زاد قبيل السفر

فأعمار الناس لا تقاس بعدد السنين التي يحيونها.. ولكن بالأعمال العظيمة التي يقومون بها.. فابن العشرين عاماً مثلاً.. قد يكون أطول عمراً من ابن الستين.. لأن الأول شغل أوقاته في العمل الصالح النافع المفيد.. والثاني أضاع عمره في اللهو والمجون.. والدعة والكسل والخمول.. فما كان من وقت الإنسان لله.. في طاعته ومرضاته وعبادته.. فهو حياته وعمره.. وما ضاع في اللهو والغفلة والمجون والبحث عن الملذات والشهوات ونحو ذلك.. فليس محسوباً من حياته.. وإن عاش فيه عيشة المترفين .. وحياة الملوك والسلاطين..
إذا مرّ بي يوم ولم أستفد هدى
ولم أكتسب علماً فما ذاك من عمري

والإسلام دين يعرف قيمة الوقت.. ويقدر خطورة الزمن.. لأنه هو الحياة وهو العمر.. والإنسان يفدي عمره بكل ما يملك.. بالغالي والنفيس.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : << اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك.. وصحتك قبل سقمك.. وغناءك قبل فقرك.. وفراغك قبل شغلك.. وحياتك قبل موتك >>(المستدرك على الصحيحين [7846]ج4 ص341).. وقوله صلى الله عليه وسلم : << بادروا بالأعمال سبعاً : هل تنتظرون إلا فقراً منسياً.. أو غنى مطغياً.. أو مرضاً مفسداً.. أو هرماً مفنداً.. أو موتاً مجهزاً.. أو الدجال فشر غائب ينتظر.. أو الساعة فالساعة أدهى وأمر>> ( سنن الترمذي [2306]ج4 ص552).. وورد في الأثر :" إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح وخذ من صحتك قبل مرضك ومن حياتك قبل موتك"..
دقات قلب المرء قائلة له
إن الحياة دقائق وثوانِ
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها
فالذكر للإنسان عمر ثانِ

أما الوقت الضائع.. فهو ذلك الوقت الذي يقضيه الإنسان في عمل لا يجني منه طائل.. ولا ينتفع به في دنياه.. ولا يستفيد منه لآخرته.. وهذا ينطبق على شريحة كبيرة من المجتمع..حيث أصابهم الجهل بقيمة الوقت.. فلا يتحسرون على التفريط فيه.. ولا يندمون على ما أضاعوه من أوقاتهم..
جد الزمان وأنت تلعب
والعمر لا في شيء يذهب
كم كم تقول غداً أتوب
غداً غداً والموت أقرب

حتى تاهوا عن المنهج السديد.. وانساقوا وراء الشهوات والرغبات.. فانطمست فطرتهم.. واعوج فكرهم.. فلم يمايزوا.. بين الخير والشر.. والصالح والطالح.. والجيد والرديء.. فتميعت المبادئ والأفكار.. وانخارت القيم والأخلاق.. فنسمع أن المعروف أصبـح منكراً.. والمنكر أصبح معروفاً.. والصالح أصبح بمنهجه العظيم طالحاً.. والطالح بفساده وخسته أصبح من الصالحين.. يكرم ويكافئ.. على فساده وعربدته.. وضلاله وانحلاله!!.. وأصبح بعض الفساق يعتقدون أنهم هم مصلحو هذه الأمة!!.. وأصبح المصلحون من المنبوذين في الحياة!!.. ماتت الهمم.. وخارت العزائم.. وتعودت النفوس على الدعة.. والراحة والكسل.. تمر الأيام.. ولا يحسب لها حساب.. وتمر الأعوام.. والناس رغم كل ذلك نيام..
أطاعوا ذا الخداع وصدقوه
وكم نصح النصيح فكذبوه
ولم يرضوا بما سكنوا مشيداً
إلى أن فضضوه وأذهبوه
ألظوا بالقبيح وتابعوه
ولو أمروا به لتجنبوه
نهاهم عن طلاب المال زهد
ونادى الحرص ويلكم اطلبوه
فألقاها إلى أسماع غشر
إذا عرفوا الطريق تنكبوه
وحبل العيش منتكث ضعيف
ونعم الرأي أن لا تجذبوه
حسبتم يا بني حواء شيئاً
فجاءكم الذي لم تحسبوه
أديل الشر منكم فاحذروه
ومات لخير فيكم فاندبوه

قال فيلسوف :" أعجب ما في الإنسان أن ينقص ماله فيقلق وينقص عمره فلا يقلق"..
إنا لنفرح بالأيام نقطها
وكل يوم مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً
فإنما الربح والخسران في العمل

بل أن بعض الناس.. لا يوقظهم من سباتهم العميق.. إلا المناسبات والحوادث.. التي تمر عليهم مر السحاب.. وهذا كله بسبب الهزيمة النفسية التي يعاني منها أبناء الأمة الإسلامية.. وبسبب التربية الخاطئة من قبل الآباء.. وبسبب ندرة المصلحين.. والآمرين بالمعروف.. والناهين عن المنكر..
نهارك يا مغرور سهو وغفلة
وليلك نوم والردى لك لازم
وتكدح فيما سوف تنكر غبه
كذلك في الدنيا تعيش البهائم
تسر بما يفنى وتفرح بالمنى
كما غر باللذات في النوم حالم

فنسمع عن كثير من المفارقات والعجائب.. تحدث في هذا الزمن.. لا يستسيغها العقلاء.. ويبكي من إثرها العلماء.. ويضحك عليها البسطاء.. ومثال على ذلك.. كما يعلم من يتابع الرياضة.. أن بعض الألعاب الرياضية.. والتي يمارسها أبناء الأمة.. والتي بسببها يترك كثير منهم صلاته.. وواجباته الدينية.. وكثير منهم يعبدها من دون الله.. فلا يتكلم إلا عنها.. ولا يفكر إلا فيها.. ولا يناقش إلا عليها.. فقد شغلت لبه وقلبه.. وسلبت منه عقله وفكره..
حياتك أنفاس تعد فكلما
مضى نفس أنقضت من عمرها جزءا
ويحييك ما يغنيك في كل حالة
ويحدوك حاد ما يريد بك الهزءا
فتصبح في نفس وتنسي بغيرها
وما لك من عقل تحس به رزءا

وأنوه للأخوة القراء.. إني لست ضد الألعاب الرياضية.. والتي تنمي الجسم والعقل.. والإدراك والتعاون.. والجرأة والإقدام.. والصبر وطول البال.. وتزيد من الأخوة والمحبة والتعاون.. وإنما ضد التفسخ والانحلال.. ضد ارتكاب المعاصي والآثام.. ضد التهتك والمجون.. ضد الميوعة وقلة الأدب.. ضد الاهتمام بها.. والحرص عليها وعلى أدائها.. أكثر من الاهتمام بالعبادات المفروضة.. وأداء الواجبات والسنن.. ضد الألعاب التي تؤدي إلى النزاع والشقاق.. ضد الألعاب التي تؤدي إلى الشتم واللعن.. ضد الألعاب التي يكون فيها اللاعبون شبه عراة!!.. ضد الاختلاط بين الجنسين.. أو بروز النساء أمام الرجال.. ضد الألعاب التي تقضي على هدف الإنسان في هذا الوجود..
متى تصل العطاش إلى ارتواء
إذا استقت البحار من الزكايا
ومن يثني الأصاغر عن مراد
وقد جلس الأكابر في الزوايا
وإنَّ ترفُّع الوضعاء يوماً
على الرَّفعاء من إحدى الرزايا
إذا استوت الأسافل والأعالي
فقد طابت منادمة المنايا

والعجيب أن في بعض هذه الألعاب وقت بدل الضائع!! يقرره حكم تلك اللعبة.. ويقدر الوقت الذي ضاع من تلك اللعبة.. والذي يضيع منهم طبعاً فيما لا طائل منه.. ولا يجنون من ثمره شيئاً ـ إن لم يؤدوا واجباتهم الدينية ولم يلتزموا بآداب الإسلام ـ فيحدد ويقدر الوقت الضائع حسب رؤيته لسير اللعبة.. { الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } ( الكهف : 104)..
وحدثتك الليالي أن شيمتها
تفريق ما جمعته فاسمع الخبرا
وكن على حذر منها فقد نصحت
وانظر إليها تر الآيات والعبرا
فهل رأيت جديداً لم يعد خلقاً
وهل سمعت بصفو لم يعد كدرا

فإذا كان هؤلاء البشر.. رغم فساد عملهم هذا.. لهم أوقات بديلة للأوقـات التـي ضـاعت بـدون أن تستغـل حـق الاستغلال!!.. فهل استعددنا نحن أيضاً.. للوقت الضائع.. والذي ضاع من عمرنا هباءا منثوراً.. قبل أن يعرضه علينا حاكم السماوات والأرض.. يوم لا ينفع مال ولا بنون.. إلا من أتى الله بالقلب سليم..
دبيب للمجد والساعون قد بلغوا
جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا
فكابدوا المجد حتى ملَّ أكثرهم
وعانق المجد من أوفى ومن صبرا
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصَّبرا

فهلم أخي في الله لنحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب.. ونزنها قبل أن توزن.. لأن الذي يديم الحساب هو القوي الحازم.. والذي تغلبه نفسه ويسيطر عليه هواه هو العاجز الذي فقد القوة والعزم.. وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: << الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله عز وجل>>(المستدرك على الصحيحين [7639] ج4 ص280)..
ما أحسن الدنيا وإقبالها
إذا أطاع الله من نالها

فينبغي للمؤمن أن يوجد في أحد هذه المواطن : إما مسجد يذكر الله فيه أو يعمل خيراً أو يسمعه أو يتعلم الخير أو يأمر بالخير أو يعلمه.. أو في عمله ساعياً لمعاشه.. أو في قعر بيته هارباً مما لا يعنيه مشتغلاً بما يعنيه..
بربك قل لي كيف تلهو وتلعب
وجرح حمانا غائر ليس ينضب
أتهنأ حقاً والحصون تهدمت
وصار غراب الخزي فوقك ينعب
وساغ لك الأكل الشهي وأسُّنا
يهز بزلزال العدو ويقلب
تبيت هنيء البال غير مروع
وتغدوا فسيح النفس تشدو وتطرب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق